(32)
المبحث الثالث: نماذج تطبيقية لأثر التربية الإسلامية
لقد أثرت التربية الإسلامية في المسلمين تأثيراً ما كان أحد يتوقع حدوثه في
الأرض، لم يتوقعه أحد ممن لم يذق طعم الإسلام وما يحدثه في النفوس من تغيير،
وسلوك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على مدى ذلك التأثير.
ونضرب لذلك ببعض الأمثلة:
المثال الأول:
سرعة التنفيذ اختياراً وامتثالاً.
إن الأمور التي يعتادها الناس لمدة طويلة وهي مما تشتهيه النفوس، يصعب على تلك
النفوس أن تتركها، وإذا حاول القليل أن يتركها تشبّث بها أكثر الناس، ولكن
النفوس المؤمنة التي تربت على طاعة الله ورسوله لا يصعب عليها الإقلاع عمّا
ألفت إذا أراد الله منها ذلك الإقلاع؛ وإنما يصعب عليها أن تبقى على ما ألفت
حياء من الله وخوفاً من سخطه.
فقد كان كثير من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم مازالوا يشربون الخمر في
المدينة قبل أن ينزل تحريمها صريحاً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه
وسلم، فلما نزل تحريمها سارعوا إلى اجتنابها مسارعة الراغب في رضا الله تعالى،
الذي في يده الكأس لم يرفعها إلى فيه، والذي قد أخذ جرعة في فمه لم يستسغ
إنزالها إلى جوفه، بل مجّها من فوره، والذي قد شرب منها شيئاً حاول أن يستقيئ
ليطهر جوفه من الرجس الذي حرمه الله، وجرت سكك المدينة بالخمور التي أهرقوها من
دنانها، حتى لا يبقى شيء منها أمام أعينهم.
كما روى أنس بن مالك، رضي الله عنه قال: "كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر، في
بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفصيخ والبسر والتمر، فإذا منادٍ ينادي، فقال:
اخرج فانظر، فخرجت فإذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فجرت في سكك
المدينة، فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فهرقتها .." [البخاري (6/241-242)
ومسلم (3/1570) واللفظ له، وغيرهما من أهل السنن.
رجل واحد ينادي بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الخمر، فيسرع الناس
بإهراق القلال المملوءة به – كما ورد في بعض روايات أنس: "أهرق هذه القلال" –
في شوارع المدينة حتى تجري فيها لكثرتها، ولم يتردّدوا في ذلك مع ما عرف من
صعوبة إقلاع شاربي الخمر عنها، ثم لم يراجعوها بعد ذلك ولا سألوا عنها، ولم يكن
ذلك لقوة السلطة المادية من المطاردة، وفتح السجون والغرامات وغيرها، وإنما كان
بسبب السلطة الربانية – أي القوة الإيمانية المغروسة في النفوس – إنه امتثال
أمر الله ورسوله عن رضا واطمئنان.
وينبغي –هنا– أن نذكّر بقصة إصدار أكبر دولة مادية في العصر الحديث، قانونا
بحظر الخمر والعقاب عليها، وتجنيد هذه الدولة كل قواها البشرية والمالية،
ووسائل إعلامها، وفتح سجونها على مصراعيها لملئها بالجناة الذين لم يستجيبوا
لتطبيق القانون الذي صدر في 16 يناير عام 1919م على أن ينفذ عام 1920م، وسبق
المنع حملة واسعة من التوعية في جميع وسائل الإعلام، وفي المدارس والمصانع،
وصار تدريس أضرار الخمر جزئاً من المواد الدراسية التي يدرسها الطلبة في
الابتدائي والثانوي والجامعة، وبذلت جهود جبارة في التوعية، حتى لقد سودت تسعة
ملايين صفحة تبين أضرار الخمر الطبية، والاجتماعية، والأخلاقية، وبلغت تكاليف
الحملة الإعلامية في ذلك العام فقط خمسة وستين مليون دولار (عام 1920م، قيمتها
اليوم أكثر من 650 مليون دولاراً) ولكن لم يكن يمضي على إغلاق الحانات ومصانع
الخمر أيام قلائل إلا وابتدأت تنتشر آلاف الحانات السرية .. وفي غضون أشهر
قليلة زاد شاربو الخمر عمّا كانوا عليه قبل المنع .. وقدّم إلى المحاكمة ملايين
الأشخاص .. وسجن ما بين 1920 و1933 نصف مليون شخص، لإدانتهم بشرب الخمور
والاتجار بها أو حيازتها، وقدِّم إلى القضاء في تلك الفترة مجرمون عتاة ارتكبوا
جرائم مروعة بسبب الخمر، وقد أدانت المحاكم الكثير منهم، وحكمت على مائتين من
عتاة المجرمين بالقتل .. لجرائم متعلقة بالخمور، كما قامت الحكومة بمصادرة
أملاك ومصانع الخمر السرية، وبلغ قيمة الأموال المصادرة عندئذ أربعمائة مليون
دولار.
ومع هذا فقد انتشرت العصابات الإجرامية ... وأفلت كثير منها من قبضة القانون.
تلك الدولة هي الحكومة الأمريكية!
وممّا ذكرنا يبدوا أن الحكومات الأمريكية المتعاقبة في الولايات المتحدة في
فترة المنع، وهي ما بين 1920 و 1933م، كانت جادة في تطبيق القانون، فقد بذلت في
ذلك جهوداً جبارة، ولكن تلك الجهود المضنية باءت بالفشل، وصار من المحتم على
الحكومة الأمريكية والكونغرس الأمريكي أن يعيدا النظر في قرار المنع ذلك، إذ
وجدت الحكومة الأمريكية أن ملايين الأمريكيين قد أقبلوا على شرب الخمور السرية
الرديئة، وزاد الإقبال عليها خاصة بين الشباب ... وقد انتشرت إحصائيات مرعبة عن
الوفيات الناتجة عن شرب تلك الخمور الرديئة، ففي عام 1927م فقط هلك من استعمال
تلك السموم الناقعة سبعة آلاف وخمسمائة شخص، كما أصيب بأمراض وبيلة من جراء
شربها أحد عشر ألف شخص في ذلك العام، وازدادت نسبة الجرائم كلها من هتك
للأعراض، من سرقة، وقتل، وتضاعف عدد المجرمين ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل
المنع، وصرح الكولونيل موسى رئيس المجلس الوطني للجريمة ... في ذلك الوقت،
بقوله: إن واحداً من كل ثلاثة أمريكيين يتعاطون الخمر، وإن الجرائم قد ازدادت
بنسبة ثلاثمائة بالمائة عما كانت عليه قبل ...
وبذلك عادت الولايات المتحدة إلى السماح بصناعة الخمور وبيعها والاتجار بها
والإعلان عنها ... [الخمر بين الطب والفقه، لمؤلفه الدكتور محمد بن علي البار
ص: 100-103 مع شيء يسير من التصرف والاختصار، وراجع كتاب التشريع الجنائي
الإسلامي (2/496-497) لعبد القادر عودة، وراجع ضرورة حفظ العقل في كتابنا:
الإسلام وضرورات الحياة].
قارن بين نداء رجل واحد: إن الله قد حرم الخمر واستجابة أهل المدينة كلهم
لندائه، وإهراق ما عندهم من الخمور حتى جرت في سكك المدينة ومن ثم لم يعودوا
لشربها، وبين ما جرى من دولة ذات قوة وإمكانات مادية لتطبيق القانون الذي حرّمت
به الخمر قهراً، ثم استسلامها لجماهير الإجرام والشهوة العارمة، بعد أحد عشر
عاماً من الزمن وافهم السبب الذي جعل الناس يستجيبون في الأول، والسبب الذي دعا
إلى التمرد في الثاني!
إن التربية الإسلامية هي السبب في استجابة المسلمين لداعي التحريم في الأول،
وعدم تلك التربية، وهو البعد عن الله هو السبب في الثاني.
(33)
المثال الثاني من النماذج التطبيقية لأثر التربية الإسلامية:
سرعة تنفيذ النساء المؤمنات أمرهن بالحجاب
إنه من الصعوبة بمكان أن يتحول المرء من عادة ألفها فترة طويلة من حياته إلى
عادة أخرى لم يألفها، ولكن الإيمان والتربية الإسلامية تجعله يتحول بسرعة،
-راضياً مطمئنا-ً من عادته الأولى إلى الثانية. وهذا ما حصل من النساء المؤمنات
عندما علمن أن الله أمرهن بالحجاب، فقد استبطأن أن تعد كل واحدة منهن خماراً
لذلك، فشققن مروطهن واختمرن بها، كما في حديث عائشة، رضي الله عنها، قالت:
((يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَل لما نزل وليضربن بخمرهن على جيوبهن
الآية، شققن مروطهن فاختمرن بها)) [البخاري (6/13) والآية في سورة النور: 31].
(33)
المثال الثالث من النماذج التطبيقية لأثر التربية الإسلامية:
سهولة إثبات الجريمة بإقرار الجاني خوفاً من الله تعالى،
ولو أدى إقراره إلى حرمانه الحياة أو حرمان أقرب المقربين إليه،
ونسوق لهذا المثال حديثين:
الحديث الأول:
"عن أبي هريرة وزيد بن خالد الدهني رضي الله عنهما، قالا : جاء
أعرابي فقال يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله. فقام خصمه فقال: صدق اقض بيننا
بكتاب الله فقال الأعرابي: إن ابني كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته، فقالوا
لي: على ابنك الرجم، ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم
فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لأقضين
بينكما بكتاب الله أما الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب،
عام وأما أنت يا أنيس لرجل فاغد على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها
أنيس فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت" [البخاري (8/24)
ومسلم (3/1324)].
تأمل كيف يسعى من له علاقة بالمعصية للعثور على حكم الله فيها وتطبيقه على
قريبته، من الاتصال بأهل العلم وسؤالهم، وكيف يأخذ الابنَ أبوه إلى من ينفذ فيه
حكم الله، ويقرّ الزوج على امرأته بالزنى، وفيه ما فيه من العار وسوء السمعة
عليه، وكيف يعترف العاصي بمعصيته، وإن كان في اعترافه مفارقة الحياة، كل ذلك
للحرص على البعد عن سخط الله، وطلب رضاه الذي هو هدفه الأول في هذه الحياة،
بسبب التربية الإسلامية التي تدور كلها حوله.
الحديث الثاني: "عن وائل بن حجر رضي الله عنه، أن امرأة خرجت على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم، تريد الصلاة فتلقاها رجل فيتحللها، فقضى حاجته منها فصاحت،
فانطلق ومر عليها رجل، فقالت: إن ذاك الرجل فعل بي كذا وكذا، فانطلقوا فأخذوا
الرجل الذي ظنت أنه وقع عليها، وأتوها فقالت: نعم هو هذا، فأتوا به رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلما أمر به ليرجم قام صاحبها الذي وقع عليها، فقال يا رسول
الله أنا صاحبها. فقال لها: ((اذهبي فقد غفر الله لك)) وقال للرجل قولا حسنا
وقال للرجل الذي وقع عليها: ((ارجموه)) وقال: لقد تاب توبة لو تابها أهل
المدينة لقبل منهم" [أبو داود (4/541-432) والترمذي (4/56) وقال: هذا حديث حسن
غريب صحيح. قال العظيم أبادي رحمه الله قوله: "فلما أمر به ليرجم" ولا يخفى أنه
بظاهره مشكل، إذ لا يستقيم الأمر بالرجم من غير إقرار ولا بينة، وقول المرأة لا
يصلح بينة، بل هي التي تستحق أن تحد حد القذف، فلعل المراد فلما قارب أن يأمر
به، وذلك قاله الراوي نظراً إلى ظاهر الأمر حيث أنهم أحضروه في المحكمة عند
الإمام، والإمام اشتغل في التفتيش عن حاله، والله أعلم، عون المعبود (12/42-43)
الطبعة السلفية].
إن الرجل جنى واختفى، واتُّهِم غيره، وكاد يطبق العقاب على المتهم، وهو الرجم
إلى الموت، ولو أراد الجاني أن يستمر في الاختفاء لفعل، ولكن خوف الله ساقه
سوقاً لإنقاذ حياة بريء، وتقديم نفسه للموت، فكانت توبة لو تابها أهل المدينة
لقبل الله منهم.
قال أبو زهرة رحمه الله، وهو يعدّد فوائد يقظة الضمير الديني – أي بالتربية
الإسلامية -:
"الثاني: أن إيقاظ الضمير يسهّل الإثبات، لأن الجرائم لا تقع إلا في كِنٍّ من
الظلام، مستترة غير ظاهرة، فإذا أحس الذين عاينوا وشاهدوا أن عليهم واجباً
دينياً أن يبلغوا فإنهم يبلغون، تنفيذاً لحكم ربهم، وذلك لقوله تعالى:
يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو
الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن
تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [النساء: 135].
ولقد بلغ من قوة الضمير أن الرجل يأخذ ولده إلى الرسول عليه السلام، فيقيم عليه
الحد إذا وجب .." ثم ذكر حديث أبي هريرة وزيد بن خالد المتقدم [الجريمة
والعقوبة (1/13)].
(34)
المثال الرابع من النماذج التطبيقية لأثر التربية الإسلامية:
رفض الإغراء واحتمال المكاره رغبة فيما عند الله وخوفاً من عقابه
كما في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده رضي الله عنهما، قال: كان رجل يقال
له مرثد بن أبي مرثد، وكان رجلا يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة: قال:
وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق، وكانت صديقة له، وإنه كان وعد رجلا من
أسارى مكة يحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة
مقمرة، قال: فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط، فلما انتهت إلَيَّ عرفتني
فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد، فقالت: مرحبا وأهلا، هلم فبت عندنا الليلة، قال: قلت:
يا عناق حرم الله الزنا، قالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم. قال
فتبعني ثمانية وسلكت الخندمة فانتهيت إلى كهف، فدخلت فجاءوا حتى قاموا على
رأسي، فبالوا فطل بولهم على رأسي وأعماهم الله عني، قال: ثم رجعوا ورجعت إلى
صاحبي، فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخر، ففككت عنه أكباله، فجعلت
أحمله ويعينني حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا
رسول الله أنكح عناقا؟ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي شيئا
حتى نزلت الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو
مشرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية
أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فلا تنكحها" [أبو داود (2/542)
والنسائي (6/54) والترمذي (5/328) وقال: قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب لا
نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال المحشي على جامع الأصول (2/245) وإسناده حسن ...
وصححه الحاكم].
لقد حمل مرثداً رضي الله عنه إيمانُه وتربيته الإسلامية على إنقاذ إخوانه
المسلمين من الأسر، وتأمينهم، فكان يقطع المسافات الطويلة بين مكة والمدينة
ذاهبا وآئباً: يحمل الأسير وهو مكبل بالقيود، حتى يخرجه من مكة، فيفك قيوده
ويعينه حتى يصل مأمنه بين إخوانه المسلمين بالمدينة.
وجد مرثد تلك البغي التي كان له معها علاقة في الجاهلية، وهو في وقت حرج يخاف
على نفسه من أن يكتشف من قبل قريش الذين كان يأخذ أسراهم خفية منهم، فدعته تلك
البغي إلى الرواح معها والنزول في بيتها وهو يتدسس، فلم يتردد في أن يذكر لها
حكم الله في تلك العلاقة السيئة، وهو يعرض بذلك نفسه للخطر، لأنها كانت، كما
يبدوا من سياق الحديث تعرف حمله الأسرى، وهو يعلم أنها ستؤلب عليه إن لم يستجب
لها، ولذلك صاحت بالناس محرشة عليه، فتبعوه .. ونجّاهم الله منهم، فرجع لتنفيذ
أمره.
والذي يظهر من استئذان مرثد النبي صلى الله عليه وسلم في الزواج من عناق أنه
كان يحبها، وكانت نفسه البشرية تتوق إليها، ولكنه صبر عنها رافضاً الإغراء،
ومتحملاً الأخطار في ذات الله عز وجل، وتلك هي التربية الإسلامية العظيمة.
ويشبه ذلك رفض العبيد الضعفاء أوامر السادة الأقوياء التي فيها معصية الله
تعالى، بل إن هذا لأشد، لأن للسيد سلطة على عبده، والعبد مضطر إلى مخالطة سيده
والبقاء عنده متعرضاً لأذاه كل حين، كما في قصة عبد الله بن أبيّ بن سلول مع
جاريته ومحاولته إكراهها على البغاء ورفضها أمره:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان عبد الله بن أبيّ ابن سلول يقول
لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً، قال: فأنزل الله عزّ وجلّ: ولا تكرهوا
فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن
الله من بعد إكراههن غفورٌ رحيم [النور: 33] وفي رواية: إن جارية لعبد الله بن
أبيّ يقال لها مسيكة. وأخرى يقال لها أميمة، كان يريدهما على الزنا، فشكتا ذلك
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: ولا تكرهوا فتياتكم على
البغاء - إلى قوله - غفور رحيم [مسلم (3/2320)].
يحاول المجرمون نشر الإجرام بكل الوسائل المتاحة لهم، كما أراد ابن أبيّ ذلك
لجواريه، لأنه يملكهن، ولكن التربية الإسلامية تقف لهم بالمرصاد، فيقف الضعيف
طبْعاً، القوي إيماناً، ضد رغبة القوي طبعاً الضعيف إيماناً.
ولو أن المسلمين في كل زمان رُبُّوا هذه التربية الإيمانية لما قدر دعاة الفساد
وناشروه وإن كانوا أقوياء أن يشيعوا فيهم الفاحشة والمنكر.
ولو أتيح للمجرمين والمنحلين ومحبي الفاحشة أن يربوا على الإيمان بالتربية
الإسلامية لتابوا إلى الله ورفضوا كل فحشاء ومنكر.
(35)
المثال الخامس من النماذج التطبيقية لأثر التربية الإسلامية:
الورع العالي
كما في قصة تقيؤ أبي بكر رضي الله عنه ما أكله عندما علم أنه من كسب حرام.
"عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو
بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما
هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن
الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي اختلفا منه، فأدخل أبو
بكر يده فقاء كل شيء في بطنه" [البخاري (4/236)].
تأمل صنيع أبي بكر هذا، أكل لقمة من سعي غلامه، وهو جائع قبل أن يسأل عن مصدر
الكسب، والظاهر من الأثر أنه كان من عادته أن يسأل قبل أن يأكل احتياطاً، فلمّا
أخبره الغلام بسبب كسبه وعرف أنه غير مشروع لم يطق أن يختلط غذاؤه بتلك اللقمة
الخبيثة بدمه، فاستقاء ليخرجها وما اختلطت به في بطنه، وما كان رضي الله عنه
مكلفاً أن يفعل ذلك، وقد أكلها دون أن يعلم أنها من كسب خبيث، ولكن التربية
الإسلامية التي تربّاها على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي التي أوصلته
إلى ذلك الورع العالي الذي لا يصل إليه إلا من بلغ درجة المتقين الذين يدَعُون
ما لا بأسس به خشية مما به بأس، أليس كان يكفي أبا بكر أن يستغفر الله ويتوب
إليه ويدع ما بقي من ذلك الكسب غير المشروع؟ بلى ولكن الورع العالي لم يدعه
يكتفي بذلك.
إن الذي لم بُربّ التربية الإسلامية على طاعة الله ليلتمس الحصول على ما ليس له
فيه حق، ليسطو عليه في غفلة عن صاحبه، وإن كثيراً ممن ولاهم الله أمور الناس
ليسلكون سبلاً شتى في الاعتداء على حقوق الناس، مستغلين قوتهم وسلطانهم، ولكن
سلطان الله يسلك بأهله سبيلاً آخر وهو تقوى الله وعدم إضرار الناس.
فأين هذا الورع العالي الذي ضرب له أبو بكر رضي الله عنه أروع مثال، بإخراج
لقمة الرزق الخبيث مع ما اختلطت به من الرزق الحلال، وكان أكلها وهو جائع ولا
علم له بها؟
أين هذا من جباة الحرام وطالبي الاعتداء على حقوق الناس؟!.
هذا وليعلم أن تربية الفرد بالعلم النافع والعمل الصالح لتستغرق كل أوقات حياته
بأصول الإيمان وما تفرع عنها، وأصول الإسلام وما تفرع عنها، وكل أصل من أصول
الإيمان وفروعه، وكل أصل من أصول الإسلام وفروعه له أثره العظيم على حياة الفرد
إذا جاء به على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، يجعل ذلك الفرد
صالحاً مصلحاً، يحب الصلاح والمصلحين ويكره الفساد والمفسدين، ويسعى قدر طاقته
أن يزداد الصالحون صلاحاً، وأن يقلع المفسدون عن فسادهم ويكونوا مع الصالحين.
ومن تتبع منهاج حياة المسلم الذي شرعه الله تعالى له سواء فيما يتعلق بصلته
بربه أم صلته بالآخرين، وجد أنه لا يوجد للمسلم فراغ يرتكب فيه ما حرم الله أو
يترك ما أمر الله به. [راجع إن شئت قسم الجهاد المعنوي في الفصل الثاني من
الباب الأول من كتاب للمؤلف بعنوان: الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته
(1/274-437) الطبعة الأولى، نشر دار المنار في جدة]
ويشمل ذلك قلب الإنسان وعقله وجسمه [راجع بحث ضرورة حفظ العقل في كتابنا
الإسلام وضرورات الحياة. وكذلك الجهاد في سبيل الله (1/438- 473)].