(25)
المبحث الثامن:
العلم بأن الله واهب الحياة والرزق.
إن أعظم م يحرص
عليه الإنسان في الدنيا أمران:
الأمر الأول:
الحياة وطول الأجل.
الأمر الثاني:
الرزق، وهو شامل لكل ما ينتفع به ويتمتع من مال وأهل وسكن وجاه ومنصب ومكانة
وغيرها.
وإن أعظم ما يخاف منه هو انقطاع الأجل وانقطاع الرزق أو ما يؤثر على الحياة
والرزق.
والذي لا يؤمن بالله واليوم والآخر إيماناً حقاً كما أراد الله تجده أشد الناس
حرصاً على الحياة والرزق، وأكثر الناس شراهة لتناول الشهوات، أياً كان مصدرها،
حرصاً على تمتعه بأكبر قدر متاح قبل مفارقة الحياة، وإذا فاز في الحصول على
الرزق الذي ينشده، وسلم مؤقتاً من انقطاع الأجل اشتد هلعه لطلب المزيد واشتد
خوفه من أن يصاب بما ينغّص حياته أو ينقص رزقه.
أما الذي يؤمن بالله وباليوم الآخر، فإنه بفطرته البشرية يحب الحياة ويحب
الرزق، ويسعى لحصول الرزق، ودفع ما يضرّه أو يقطع أجله، وهو مأمور بذلك شرعاً،
كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا
تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدّرَ الله
وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) [مسلم (4/2052)].
إلا أنه يعلم يقيناً أن الذي يهب له الحياة ويمد له في العمر، هو الله وأن الذي
ينزع منه هذه الحياة هو الله، وأن سعيه للرزق محكوم بمشيئة الله تعالى، يبسط له
ما يشاء ويقدر له ما يشاء. قد يجعله من أكبر الأغنياء، وقد يجعله كفافاً، وقد
يجعله فقيراً على الرغم من كدحه وسعيه، لهذا تجد المؤمن يسعى في دفع الأذى عن
حياته ولجلب رزقه، وهو مطمئن بأن أجله مقدرٌ، لا يقدمه أحد غير الله ولا يؤخره،
وأن رزقه لا يأتيه منه إلا ما كتب الله له.
فالله سبحانه وتعالى هو واهب الحياة والموت وخالق الإنسان من تراب ثم من نطفة
مهينة، وهو الذي يميته إذا شاء في أجله المحدود، كما قال عز وجل: )الذي خلق
الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور( [الملك: 2].
وقال تعالى: ( إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق ) [العلق: 1-2].
وقال تعالى: ( ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون ) [الحجر: 26]
وقال تعالى: ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار
مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا
العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) [المؤمنون:
12-14].
وقال تعالى: )قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره( [عبس:
17-19].
فالله هو الذي خلق الإنسان ووهبه الحياة ابتداء،ً ولا يقدر أحدٌ سواه تعالى أن
يخلق أو يهب الحياة.
وكذلك هو الذي يميت من وهب له الحياة في أجل مقدر لا يزيد ولا ينقص، وقد ردّ
الله زعم من ظنّ أن أحداً أو شيئاً ما يقدم الأجل أو يؤخره، قال تعالى: ( يا
أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض
أو كانوا غُزًّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في
قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير) [آل عمران: 156].
ونفى سبحانه وتعالى أن تموت نفس بدون إذنه فقال: ( وما كان لننفس أن تموت إلا
بإذن الله كتاباً مؤجلاً ) [آل عمران: 145].
وأخبر تعالى أن التحصينات المادية، من حصون وقلاع وجيوش وأسلحة، لا ترد الموت
عمن تم أجله، كما قال تعالى: )أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج
مشيدة( [النساء: 78].
وأخبر تعالى أنه هو الذي يحيي ويميت كما أنه هو مالك السماوات والأرض، فقال:
)ألا إن لله ما في السموات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون،
هو يحيي ويميت وإليه ترجعون( [يونس: 55-56].
وقال تعالى: )إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله
من ولي ولا نصير( [التوبة: 116].
(26)
والرزق كالأجل مكتوب
لصاحبه لا يقدر أحد على إعطائه أو منعه إلاّ بإذن الله، وقد دلّ على هذا المعنى
نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، وشهد به – كما شهد بالذي قبله – الواقع الذي لا
يجحده إلا مكابر.
فالخالق هو الرازق، كما قال تعالى: الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم
يحييكم [الروم: 40]. تأمل كيف جمع الله في هذه الآية بين الخلق والرزق والأجل،
فالذي يخلق هو الذي يرزق وهو الذي يحيي ويميت وقال تعالى: قل من يرزقكم من
السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من
الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون [يونس: 31].
من يوجد الماء الذي تحيابه الأرض فتنبت، أو من خلق الخصائص التي اشتملت عليها
تربة الأرض فكانت صالحة لإنبات الزروع المختلفة؟ ومن خلق الهواء والشمس اللذين
لا نبات بدونهما؟ إلى غير ذلك.
ومن خلق الحيوانات وجعل منها الأليف المأكول أو المركوب؟ ومن أوجد الآلات
الصالحة للصناعات والمساكن والسلاح؟ ومن خلق العقول المدبرة لذلك كله؟ إنه
الله.
من الذي يوسع الرزق لهذا ويضيقه على ذاك؟ بل يوسّعه لشخص في وقت، ويضيّقه عليه
في وقت آخر، قال تعالى: الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [الرعد: 26]، أولم
يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون [الروم:
37].
وقال سبحانه وتعالى، مسوياً بين الإنسان وغيره من الحيوانات العجماء التي لا
تملك ما يملكه الإنسان من العقل والتدبير وحمل الرزق وخزنه، في أن رزق الجميع
من الله الخالق: وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع
العليم [العنكبوت: 60].
وأمر سبحانه عباده بطلب الرزق عنده وشكره على رزقه إياهم، فقال: فابتغوا عند
الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون [العنكبوت: 17].
وقال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد
أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات: 56-58].
ومن أعظم ما يحرص عليه ذوو المطامع والأهواء من الأرزاق الْمُلك الذي يكون
وسيلة للوصول إلى المال وغيره من مُتَعِ الحياة وبسط النفوذ والجاه، وفرض
احترام الناس وتقديرهم، حيث يكون صاحب الملك هو الآمر الناهي، يقدر على فعل ما
لا يقدر عليه غيره، يصبح بالملك عزيزاً وقد كان قبله ذليلاً، ويصبح أعزة الناس
أذلة له، هذا الملك الذي هذه صفته، ويحرص عليه الناس حرصاً شديداً هو بيد الله
تعالى، كغيره من الأرزاق، يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، يمسي الإنسان ذليلاً
مهيناً خادماً لذي السلطان، فيصبح ملكاً عزيزاً مخدوماً، ويمسي ملكاً عزيزاً
مخدوماً فيصبح ذليلاً مهاناً خادماً، كما قال تعالى: قل اللهم مالك الملك
تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير
إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي
من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب [آل عمران: 26-27].
(26)
هذا، وقد دلت نصوص
السنة – كما دلت نصوص الكتاب – أن الأجل والرزق مقدران من الخالق الرازق، لا
قدرة لأحد على التحكم فيهما بتقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقصان، فالْمَلَك
يكتب رزق كل إنسان وأجله وسعادته وشقاءه وهو في بطن أمه، كما في حديث عبد الله
بن مسعود رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق
المصدوق، قال: ((إن أحدكم يجمع خلق في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك
علقة في مثل ذلك، ثم يكون مضغة في ذلك مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح،
ويؤمر بأربعة كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي وسعيد ...)) [البخاري
(4/78-79) ومسلم (4/2036) واللفظ له].
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لطول أمل الإنسان في طول أجله وسعة
رزقه وزيادته، وللأجل المقدر الذي يقطع ذلك الأمل الطويل، كما في حديث عبد الله
بن مسعود رضي الله عنه قال: خطّ النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً، وخطّ
خطاً في الوسط خارجاً منه، وخطّ خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط، من جانبه
الذي في الوسط: وقال: ((هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا
الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن
أخطأه هذا نهشه هذا)) [البخاري (7/171) وهو في المسند (1/385) وابن ماجة
(2/1414)].
ونبّه الرسول صلى الله عليه وسلم زوجه أم حبيبه بنت أبي سفيان التي سألت الله
أن يمتّعها به وبأبيها وأخيها، نبّهها أن للأجل أيامه المعدودة التي لا تزيد
ولا تنقص، وأن الرزق مقسوم لا يزيد ولا ينقص، كما في حديث عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أمتعني
بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، قال: فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: ((قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق
مقسومة، لن يعجّل شيئا قبل أجله، أو يؤخر شيئاً عن أجله، ولو كنت سألت الله أن
يعيذك من النار أو عذاب في القبر كان خيراً وأفضل)) [أحمد (1/390) ومسلم
(4/2050-2051)].
وفي هذا الحديث تنبيه على أن يهتم المسلم بالعمل الصالح ويلحّ في الدعاء أن
يوقفه الله، وأن يعيذه من النار وعذاب القبر، وأمّا الأجل والرزق فإنهما قد
كتبا ولا بد منهما كما كتبا، وإن كان يشرع الدعاء بطلب العافية وتيسير الأمور
وقضاء الحاجات.
ولما كان الخوف من انقطاع الأجل والرزق، قد يمنع الإنسان من قول كلمة الحق
خوفاً على نفسه من ولاة الجور الظلمة الذين بأيديهم القوة والمال والأمر
والنهي، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يمنعه ذلك الخوف من قول
الحق، معللاً أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أَجَل ولا
يبعدان من رزق، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ((ألا لا يمنعنّ أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو
شهده فإنه لا يقرب من أجلٍ ويباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم)) [أحمد
(3/50)].
وعندما دنا أجل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثت إليه ليحضره – ولا
شك أنها كانت متأثرة لوفاة ابنها – أرسل إليها رسولاً يقول لها: ((إن لله ما
أخذ، وله ما أعطى، وكلٌ عنده بأجل مسمى)) [البخاري (2/80) ومسلم (2/635-636)].
وقد يظن بعض الناس أن التعرض للقتال والمبارزة ينقص الأجل، وذلك ظنّ المنافقين
الكاذب، فإن الأجل محدود، والذي يقتل إنما يقتل لانقضاء أجله، كالذي يموت بأي
سبب ظاهر أو في أي مكان آخر، الأجل هو الأجل وإن تعددت أسبابه.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى: "ولا يموت أحد أحدٌ قبل أجله، مقتولاً أو غير
مقتول، قال الله عز وجل: وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً
[آل عمران: 145] وقال تعالى: فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
[الأعراف: 34] قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم
[آل عمران: 154] وحتى يستوفي رزقه ويعمل بما يسر له ...)) [المحلى (1/37)
وراجع منهج التربية الإسلامية لمحمد قطب (2/71)]
(27)
هذا، وإذا تتأمل
الإنسان أحوال الناس، وقلّب صحائف التأريخ وجد أن الواقع المشاهد في كل زمان،
بل في كل يوم مطابقاً لهذه النصوص التي سقيت من القرآن والسنة للدلالة على أن
الأجل والرزق بيد الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يستطيع أحد في الأرض ولا في
السماء أن يقدم فيها أحداً أو يؤخره أو يزيده أو ينقصه إلا بإذن الله.
فكم من الناس من يسعى سعياً حثيثاً ليكون غنياً ويطرق كل باب يتاح له طرقه،
ولكنه يعيش كل حياته في تعب وكد ونصب، وفقر مدقع لا يجد إلا الضروري من الرزق!
وكم من الناس من يسعى سعيه أو أقل منه فيصبح غنياً ممتلئة خزائنه من رزق الله
تعالى! وكم من غني أمسى يرفل في نعيم غناه، فأصبح فقيراً يستحق نصيبه من صدقات
الأغنياء! وكم من شركة تجارية صغيرة أصبحت أم الشركات، وكم من شركات كبيرة
افتقرت! وكم من عزيز تخضع له الرقاب وتحنوا له الجبابرة لاعتلائه عرش الملك
أصبح، يتمنى أن يكون له حق العيش في بلده كبقية الأفراد، فلم يجد إلا النفي إن
سلم من الإهانة والإذلال! وكم من صعلوك كان يكدح في الحياة سعياً وراء لقمة
العيش يحمل للناس الأثقال على ظهره في الأسواق بالأجر الزهيد، أصبح آمراً
وناهياً لقوم كانوا قادة شعوب: قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع
الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير،
تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت
من الحي وترزق من تشاء بغير حساب [آل عمران: 26-27].
والفائدة من علم هذا المعنى، وهو أن الله واهب الحياة والرزق، أن العالم بذلك
المؤمن به يتقيد في سعيه لوقاية نفسه من الأخطار أو الحصول على الأرزاق بأوامر
الله الشرعية، فلا يتعدى على حقوق الله ولا على حقوق خلقه، لعلمه بأن أجله
ورزقه مربوطان بأمر الله الكوني القدري، فلا يمكن أن يحصل في سعيه إلا ما قد
قدره الله له أو عليه، ولذلك لا يضرّ الناس ولا يؤذيهم طمعاً في رزق أو زيادة
حياة، مهما كان هذا الرزق، ولو كان ملك الدنيا بحذافيرها، ومهما كانت هذه
الحياة، ولو كانت دائمة السرور من أول عمره إلى آخره لا تكدّرها المكدّرات.
وبذلك يأمنه الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وسائر حقوقهم، سواء كان ملكاً
آمراً وناهياً أم خادماً مأموراً منهياً.
(28)
ولا بد هنا من
التنبيه على أمر مهم جداً، وهو أن الجاهل عندما يعلم هذه المعاني التي شرحت في
هذا المبحث والنصوص الدالة عليها، والواقع المشاهد الذي يدعمهما، قد يظن أن
العمل لحفظ الحياة وصيانتها والحصول على الرزق يعتبر عبثاً، ما دام أن الأجل
بيد الله، لا يقدمه أحد لحظة ولا يؤخره أخرى، وما دام أن الرزق من عنده، لا
يمنعه أحد ولا يعطيه – أي أن الله وحده واهب الحياة والرزق - .
وقد تبادر هذا المعنى إلى ذهن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابه
الرسول صلى اله عليه وسلم بأن الإيمان بالقدر شيء ووجوب العمل والسعي شيء آخر،
فالقدر بالنسبة للإنسان مجهول لا يدري ماذا قدر عليه، والعمل مشروع كلفه الله
إياه، فلا يجوز ترك العمل اتكالاً على القدر الذي سبق في علم الله كما في حديث
علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله
عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس، فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال:
((ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها في الجنة والنار، وإلا قد
كتب شقية أو سعيدة)) فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل وندع العمل؟ فمن كان منا
من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة
فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. قال: ((أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة،
وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة)) ثم قرأ: فأما من أعطى واتقى ...
الآية [البخاري 2/99) ومسلم (4/2039)].
فالقدر المجهول لا يمنع السعي المشروع، ولا يجوز لتارك العمل المشروع الاحتجاج
بمضي القدر، ولهذا كان الذي يُقتَل دون نفسه شهيداً مع أن أجله قد قضى أن يقتله
ذلك القاتل المعتدي الذي حاول المقتول أن يدفعه عن القتل، وأمر الله تعالى
الإنسان بكسب رزقه والسعي له، كما قال تعالى: وهو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً
فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور [الملك: 15].
فعلى الإنسان أن يبذل طاقته في تحصيل مصالحه، ودرء المفاسد عنه ولكن لا يركن
إلى سعيه ذلك ويعتقد أنه ينشئ النتيجة ولا بد، بل يعتقد أنه يعمل السبب المشروع
وأن الله هو خالق السبب والمسبب معاً ولا قدرة لأحد على دفع ما أراد الله تعالى
وقوعه.
قال ابن حجر رحمه الله في شرح حديث عمران بن حصين الذي قال فيه النبي صلى الله
عليه وسلم: ((كل يعمل لما خلق له، أو لما يسر له)) [البخاري (7/210)]: "وفي
الحديث إشارة إلى أن المآل محجوب عن المكلف، فعليه أن يجتهد في عمل ما أمر به،
فإن عمله أمارة إلى ما يؤل إليه أمرره غالباً، وإن كان بعضهم قد يختم له بغير
ذلك" [الفتح (11/493)].
وهذا هو معنى التوكل على الله الذي دل عليه القرآن والسنة، فليس من التوكل ترك
الأسباب، وإنما هو الاعتماد على الله، وعمل السعي المشروع، وعدم اعتقاد أن
السعي ينشئ النتيجة، بل المنشئ هو الله تعالى وقد بين ذلك الرسول صلى الله عليه
وسلم حيث جمع بين الاعتماد على الله، مع فعل السبب المشروع، كما في حديث عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم توكلون
على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)) [الترمذي
(4/573) وقال: قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح. وراجع كتاب جامع العلوم والحكم
في شرح الحديث ص:379-385 لابن رجب، طبع مصطفى البابي الحلبي وأولاده].
والشاهد في الحديث أنه شبه لمتوكلين على الله حق توكله بالطير ووصفها بوصفين.
الأول: أنها تغدو خماصاً، أي تغدوا من أوكارها لطلب الرزق وهي جائعة، والثاني:
أنها تروح بطاناً أي تعود إلى مقارها وهي مملوءة البطون، ومعنى هذا أن المتوكل
على الله يسعى لكسب رزقه مع اعتماده على الله ولا يتكل على القدر.