يعلو الإنسان فجأة..
يبسط له في الرزق، وفي الأهل والولد.. فيفرح، ويطمئن.. يقول وهو ينظر في
ماله:
{ما أظن أن تبيد هذه أبدا * وما أظن الساعة
قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا}.
فيمضي مختالا، يمشي يرفع أنفه إلى السماء، قد أعجبته نفسه، فلا يرى لها ندا،
ولمثلها نظيرا..
ثم.. يسقط فجأة..
يذهب ماله.. فيذل ويمرض، ثم يموت.. فجأة..
هكذا الدنيا:
خداعة بجمالها إن أقبلت***** فجاعة بزوالها إن أدبرت..
الأرض قاحلة، والناس في جوع وعطش..
ينـزل المطر، يروي الأرض، تهتز.. تخضر.. تربو.. يذهب الظمأ، وتبتل العروق..
تمتلئ البيوت بالقوت، والأبدان تشكر شكرا .. ينسى الناس أيام المسغبة، ويعم
التفاؤل والطمأنينة، فالأرض فيها الماء، وفيها الزرع والثمر، والبهائم ترعى،
لتعطي اللحم واللبن..
وفي ليلة ظلماء أو نهار أغبر مصفر، تأتي الريح تغير معالم الأرض، فتطمس أثر
الماء، وتقتلع جذور الشجر.. تحرق الأوراق، وتتبدد الثمر، وتقتل البهائم،
فتنجلي وقد عادت الأرض كما كانت:
قاحلة، متجردة، ليس لها ما يستر تربتها، أو يزين صفرتها.. فيحل بالناس القلق
والأرق..
هكذا الدنيا: لا أمان لها، يأتي رزقها بلا موعد، فيحصده أمر الله تعالى
بغتة..
ينشأ الرجل مسلما، يصلي، يقرأ القرآن، يصوم
رمضان، يحج البيت، يعطي زكاة ماله، يؤمن بالله واليوم الآخر، يرجو رحمة ربه،
ويخاف عقابه..
يغضب لربه .. ينتصر لحمى دينه، وينتقم لعرض نبيه صلى الله عليه وسلم، ويذب عن
المؤمنين.. لا يعدل بالإسلام شيئا..
ثم ينقلب، وعن دينه يرتد، فيهزأ بالصلاة والصيام.. يشتم ربه، يقول عن كتابه:
{إن هذا إلا أساطير الأولين}، يكفر بالثواب والعقاب، وبالجنة والنار..
يغضب للشيطان، ينتصر له، وينتقم من المؤمنين، يسخر منهم، يحذر منهم، يزين
سبيل الكافرين..
هكذا الدنيا: يصبح الرجل فيها مؤمنا، ويمسي كافرا.. يبيع دينه بعرض من الدنيا
قليل..
يعيش الناس في أمان، يعبدون ربهم، يصلون في
المساجد، يقيمون شعائر الله، لا يمنعهم شيء.. يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر، يعملون بما في كتاب ربهم، وبما في سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم..
وبين عشية وضحاها، تهدم المساجد، ويمنع المصلون، ويحمل المؤمنون على الردة
والكفر، وينتشر المنكر.. تختفي شعائر الإسلام، وتعلن شعائر الكفر..
فمن الناس من يهون عليه الموت، ومنهم من يستخفي بإيمانه، ومنهم من يعلن ردته
وكفره..
هكذا الدنيا: يظلم فيها المؤمنون، ويحال بينهم وبين دينهم، فلا يرضى لهم إلا
الكفر أو القتل..
ليس ذلك من صنع الخيال.. ولا وهم وحلم يراه
الناس في المنام..
كلا، بل نراه ونسمع به كل يوم..
وتلك الحقائق ليست منسوجة للأمم الخالية، أو للأفراد الذين مضوا، بل هي سنة
في كل زمان ومكان، وهذا ما يجب أن نعيه..
بشكل أوضح: إن ذلك غير محال أن يقع علينا..
أن يقع على أفراد منا:
- في غني يفتقر..
- وفي بلد يصيبه القحط بعد الخير، فيحل بأهله الجوع والموت..
- وفي مسلم يهون عليه دينه فيتركه إلى غيره...
- وفي أمة مسلمة يعدو عليها الكافر، فيطمس دينها..
وفي القرآن تمر بنا قصص كل هؤلاء، كأنها تصف ما نراه ونسمعه حذو القذة بالقذة:
- فأما الغني المختال، الذي فقد كل ماله، فمثاله في القرآن صاحب الجنتين، في
سورة الكهف، الذي لم ينتفع من موعظة أخيه المؤمن، الذي قال له:
{أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة
ثم سواك رجلا}..
فكان عاقبته:
{وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق
فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا * ولم تكن له
فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا}.
- وأما البلد إذا جاع وخاف، فمثاله ما جاء في سورة النحل:
{وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة
يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع
والخوف بما كانوا يصنعون *ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم
ظالمون}.
- وأما الرجل إذا ارتد بعد إيمانه، فمثاله ما جاء في سورة الأعراف:
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ
منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين* ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى
الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل
القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون}.
- وأما الأمة المسلمة تعدو عليها الأمة الكافرة فمثاله ما جاء في سورة
الإسراء:
{وقضينا إلى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدن في
الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا
أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا}.
فهل ما يحصل من ذلك التقلب في حال العباد، والأمم، في دينهم، ودنياهم، مما
اكتسبته أيديهم، أم محض القدر والمكتوب، كتب عليهم في اللوح أن يكونوا
كذلك؟..
الجواب:
بل هو ما اكتسبته أيديهم.. وما من مثال إلا وفيه سبب تقلب الحال:
- فالغني ما ذهب ماله وافتقر إلا بذنبه: أعطاه الرزق ليشكر، ويخضع، فكفر
وتكبر.
- والأمة جاعت وخافت لما كفرت بأنعم الله، وكذبت الرسل.
- والرجل ارتد لما انسلخ من آيات الله، فرضي لنفسه ذلك، وأحب أن يكون مع
الكافرين.
- والأمة ذلت لعدوها، لما فسدت، ونكصت، وعصت أمر ربها، فلم تطبق شريعته.
لقد وعد الله عباده المتقين بسعة في الرزق،
وأمن في العيش، فقال تعالى: -
{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم
بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}.
-
{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات
ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى
لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك
فأولئك هم الفاسقون}.
كذلك توعدهم إذا بدلوا أو غيروا أن يبدل عليهم النعمة والأمن، فقال: -
{ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على
قوم حتى يغيروا بما بأنفسهم وأن الله سميع عليم}.
-
{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم}.
ثم إن الله من رحمته لا يؤاخذ بالذنب إلا بعد النذر، والإمهال:
-
{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.
فلا عذر لإنسان أو لأمة في زيغ أو ضلالة، فليس شيء أحب الله من العذر، وهو
أرحم الراحمين، فإذا حقت كلمة العذاب على قوم: جاءهم فجأة، وبتعبير القرآن
بغتة، حتى لا يدع لهم فرصة للمراجعة، أو الإنابة، أو طلب لإقالة العثرة.. فإن
العذاب لا يأتي إلا بعد استنفاذ كل مراتب وأبواب العذر: -
{ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم
وما يتضرعون* حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون}.
إن الإصلاح قبل اتساع الخرق أسهل من معالجة
الثوب الممزق..
فالخطأ في بدايته يمكن تداركه وإصلاحه، والعلاج حينئذ ينفع، لكنه يعسر، بل
يستحيل إذا استفحل.
وكم من قوم سألوا الإمهال بعد الإذن بالهلاك فما نفعهم، وقد كان ينفعهم لو
تعجلوا به قبل ذلك:
-
{وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها
قوما آخرين* فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون* لا تركضوا وارجعوا إلى ما
أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون* قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين* فما زالت
تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين}.
-
{قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما
ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسئوا فيها ولا
تكلمون}.
وتقلب الأمور والأحوال، من الإيمان إلى الكفر، ومن الرخاء إلى الشدة، تحدث في
لحظة.. وصفت في القرآن بأنها بغتة.. هذه البغتة لم تأت إلا بعد أعراض وأمراض.
نعم هي بغتة، من حيث إن الغافل لم يشعر بها إلا حين وقوعها، وكان يستعبدها،
ولا يتوقع حدوثها.. فجاءت خلاف ما كان يظن، فتبهته فلا يستطيع ردها..
أما المتيقظ فهو يشعر بقربها، بعلاماتها، وعلاماتها: الجرأة على الذنوب،
وإعلانها، والاستخفاف بالموعظة؛ لكنه لا يدري متى تأتي تلك اللحظة، فهو
يتوقعها دون أن يقدر على تحديد ساعتها..
فتقلب الحال خطر يخوف أصحاب القلوب السليمة المتيقظة، التي تعرف سنن الله
تعالى في المجاهرين المستخفين بالحرمات، لذا يكثرون من قول:
- (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت
قلوبنا على دينك).
- (يا مصرف القلوب والأبصار صرف
قلوبنا على طاعتك).
والحافظ من التقلب وتبدل الحال: تقوى الله تعالى، وسؤاله العون في كل
وقت..ولذا كان قوله:
- (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم).
كنز من كنوز الجنة، أي يورث الإنسان دخول الجنة، فمعناه:
لا تحول من حال إلى حال، ولا قوة على ذلك، إلا بعون الله تعالى العلي العظيم.
فإذا تبرأ الإنسان من حوله وقوته، واستند إلى قوة الله تعالى وعونه، واتقاه
في أموره، فالله تعالى كريم، لن يخذله أبدا، ولن يبدل حاله بعد الخير شرا..
وكذا الأمة إذا تبرأت من حولها وقوتها، واستعصمت بالقوي الجبار، وسألته
العون، واتقته في أمورها كلها، فالله تعالى كريم لن يسلط عليها عدوا، ولن
يسلط عليها فقرا وجوعا.. قال تعالى:
{وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا
أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا
يعلمون* وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا
قليلا وكنا نحن الوارثين* وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا
يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون}.