التفرق في الأصول، لا في الفروع:
التفرق في الأصول له وجه، أما في الفروع فلا وجه له، فالأول يستحق به التفرق،
أما الآخر فلا يسوغ التفرق لأجله..
والأصول هي أصول الدين، التي من خالفها يكون مبتدعا أو كافرا، وهي التي اتفق
عليها السلف من الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من التابعين ومن تبعهم،
مما أجمع عليه كلهم، أو جمهورهم.
وأما الفروع فهي ما تسمى فروع العقيدة والفقه ونحوها، مما اختلف أولئك
الأعلام فيه، وتراجحت أقوالهم فيها، وهو ما كان النص يحتمل الخلاف، كقوله صلى
الله عليه وسلم:
(لايصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)..
فصلى بعضهم في الطريق، وبعضهم صلاها في بني قريظة بعد خروج الوقت، فلم ينكر
على أحد، لأن النص يحتمل هذا، وهذا.. يحتمل أن أراد إسراعهم، ويحتمل أنه أراد
الظاهر..
ومثل ذلك حديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، قال: (نور أنى أراه)..
فهم بعضهم أنه رآه بعينه، وبعضهم بقلبه.. فقائل بهذا، وقائل بهذا، والنص
يحتمل، وإن كان الراجح معلوما، لكنه غير مقطوع به.. فاختلفوا..
ومثل ذلك الأخذ من اللحية ما زاد عن القبضة، قد ورد وصح عن جمع من الصحابة،
فمن قال به لم يخرج عن السنة، ولم يأتي بما يوجب الفرقة..
والأمثلة كثيرة، لكن يحتاج من أهل العلم من يميزها، ويعددها، ويوضحها،
ويخرجها في مؤلف للناس، حتى يعرف الناس ما الذي يسوغ لهم الخلاف فيه،
فيجتنبوا التفرق فيه، وما الذي لايسوغ الخلاف فيه، فيتمسكوا فيه بالحق..
فقدر من الاختلاف مقبول..
فالإسلام إنما جاء متفقا مع حاجات الناس، وفطرهم، وعقولهم، لذا لم يمنعهم من
الخلاف مطلقا، لأن ذلك كما أنه محال، كذلك هو داء، فإن افتراض الناس أن
يكونوا على رأي واحد مطلقا في كل صغيرة وكبيرة، خلاف المصلحة والطبيعة
البشرية:
فحياة الناس لا تستقيم إلا بتفرد كل إنسان بشخصيته وتفكيره، فلا بد أن يكون
له مجال يصول وفيه ويجول بفكره دون عائق أو مانع، حتى ينتج ويبدع، ويتبين
للناس قدر نعمة الله على الإنسان بهذا العقل الجبار، أولم نسمع لقوله تعالى:
{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}؟..
ففي الإنسان آية عظيمة هي العقل، فلا يجوز الحجر على العقل، حتى يكون صورة
متسنسخة لغيره، لايفكر إلا بما يمليه غيره من المسيطرين، هذا خطأ كبير، وهو
ضد تعاليم الإسلام، لكن مع إعطاء كل عقل مجال من الحرية، لا بد كذلك من تحديد
هذا المجال بحدود الشريعة، وإلا فإن العقل يطغى، فيخرج من المفيد إلى الضار،
وهذا مثل أمامنا:
الحضارة الغربية، أعطت للعقل مجالا غير محدود، فأنتج المفيد والمضر، فما هذه
الأسلحة الغربية المدمرة، وما تلك الاختراعات المفسدة للأخلاق، وما الأبحاث
الطبية الخطيرة المضادة للصالح البشري، إلا مثال، ولو أنهم جعلوا للعقل
حدودا، لما جنوا من ورائه كل تلك المفاسد.. فنحن بين فريقين:
-
فريق يريد من العقول أن تكون مستنسخة، على صورة واحدة، صورة الآمر المستبد
الظالم.
-
وفريق لا يريد أن يحد للعقل حدودا، يمنع من تعديها..
والوسط:
حده بحدود الشارع، فالله تعالى أعلم بعباده، هو الذي خلق العقل، وحد له
حدودا، فله الحق أن يحد ما يشاء، كما يشاء..
وحدود العقل في الإسلام:
أن يفكر وينتج ما شاء، كيف شاء، بشرط ألا يجلب على نفسه أو البشر شيئا من
الضرر في: الدين، أو النفس، أو العرض، أو العقل، أو المال..
خلاصة الكلام في هذه المسألة:
أن نعرف ما الذي يسوغ فيه الخلاف، وما الذي لا يسوغ فيه الخلاف، ويكون ذلك
بتحديد الأصول والفروع بتحرير ودقة.. فإن أكثر خلاف الناس اليوم في أشياء
يسوغ فيها الخلاف، فخلافهم ناتج عن جهل..
والمشتغلون بالعلم عليهم أن يبحثوا ويفحصوا هذه المسائل، ويخرجوا للناس بقول
محرر، فيه بيان ما يسوغ وما لا يسوغ من الخلاف، ولو خالف ذلك بعض أقوالهم
السابقة، وإلا فإنهم ربما عمقوا الخلاف، وأسهموا في الفرقة من حيث لا
يشعرون..
ومن الحسن ألا يخرج واحد برأي منفردا إلا بعد أن يطلع عليه إخوانه من
العلماء، فذلك مما يعين على تكامل النظرة تجاه المسألة، فهذا يحرر زاوية
منها، والآخر زاوية أخرى، وهكذا، فيقف كل على ما فاته، فيكتمل تحرير المسألة
وتمحيصها بالتضافر والتعاون، فإذا اتحد منهجهم، توحد فتواهم في الأصول، أما
الفروع فلا ضير في الاختلاف بعد ذلك، وعلى جميع المسلمين أن يعوا أن الاختلاف
في فروع المسائل حق مشروع، ولا يترتب عليه عداوة ولا بغضاء، ولا فرقة.