أنزل الله تعالى القرآن الكريم هاديا للناس، يدلهم ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم
في الدنيا والآخرة، فلذا وصف الكتاب بأنه هدى وبيان وموعظة للمؤمنين المتقين،
وقد أنزله الله بلسان عربي مبين، ويسره للذكر والتدبر والفهم:
- قال تعالى: { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}..
- وقال تعالى: { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا
الألباب}..
- { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}..
فقد نزل ليكون دليلا للناس ومعلما، ولا يكون ذلك ولا يمكن إلا إذا كان مفهوما
معلوما معناه غير مجهول، إذ لو جهل معناه لامتنع فهمه، وإذا صار كذلك امتنع
العمل به..
وإذا تأملنا في القرآن وجدنا أن معانيه تتضمن ما يلي:
توحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، والأحكام الشرعية،
والثواب والعقاب، وأخبار الأمم السابقة. وقد استغرق الكلام في توحيد الله
تعالى حيزا كبيرا من القرآن الكريم، وهذا التوحيد على قسمين: توحيد علمي
خبري، وتوحيد إرادي طلبي..
فالتوحيد العلمي الخبري، هو توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية، والتوحيد
الإرادي الطلبي هو توحيد الألوهية..
وإذا تأملنا في توحيد الأسماء والصفات نجد أن القرآن قد أولى هذا الجانب
عناية بالغة بالذكر والتقرير والبيان، فسورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن هي
في توحيد الأسماء والصفات، وأول سورة الحديد وسورة طه والسجدة وآل عمران وآخر
سورة الحشر، وآيات أخر كثيرة كلها تتكلم وتقرر وتثبت صفات الله تعالى، وقد
أخذت حيزا كبير في القرآن الكريم، وكما قلنا آنفا:
قد أمرنا الله تعالى بتدبر كتابه، وأخبرنا بأنه ميسر للذكر، وأنه بلسان عربي،
فدل ذلك على أن تلك الآيات في الصفات لا بد وأن لها معنى يفهمه كل من يعرف
اللسان العربي، وما قيل عن القرآن يقال عن السنة.
وعلى هذا الأساس قام منهج السلف في صفات الله
تعالى، حيث اجتمع أمرهم على الإيمان بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه
وسلم بإثبات الصفة ومعناها، لكنهم توقفوا في تفسير الكيفية، وفوضوا أمرها إلى
الله تعالى، والذي دعاهم إلى ذلك كمال فهمهم وعقولهم:
حيث إن تفسير الكيفية يتوقف على معرفة حقيقة وكيفية الذات، فإذا كانت الذات
مجهولة الكيف والحقيقة، فالجهل بصفات تلك الذات من باب أولى، ومن هنا قالوا:
القول في الذات كالقول في الصفات..
والنصوص التالية تبين كيف أن السلف يثبتون المعنى ويفوضون الكيفية:
نصوص السلف في إثبات المعنى...
(1)
- عن أم سلمة قالت في قوله تعالى: { الرحمن
على العرش استوى}..
"الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به واجب، والجحود به كفر".
- وقال ربيعة: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة،
وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق".
- وقال مالك: " الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب،
والسؤال عنه بدعة". شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3 /397-398.
قال محمد بن جعفر في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/402:
- " من زعم أن الله استوى على العرش استواء مخلوق على مخلوق فقد كفر.
ومن اعتقد أن الله استوى على العرش استواء خالق على مخلوق فهو مؤمن.
والذي يكفي هذا أن يقول: إن الله استوى على العرش من غير تكييف".
(2)
- قال الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي ومالكا
وسفيانا وليثا عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا: أمروها بلا كيف..
إبطال التأويلات 1/47.
- العباس بن محمد الدوري قال: سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام وذكر [الباب]
الذي يروى في الرؤية، والكرسي، وموضع القدمين، وضحك ربنا، وأين كان ربنا،
ويضع الرب قدمه، وأشباهه فقال:
هذه أحاديث صحاح، حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا
شك فيه، ولكن إذا قيل: كيف وضع قدمه، وكيف ضحك؟.
قلنا: لا نفسر هذا، ولا سمعنا أحدا يفسر هذا.. إبطال التأويلات1/48
وأقوال السلف في هذا الباب أكثر من أن تحصى،
وكلها تفرق بين تفويض المعنى وتفويض الكيفية، فالمعنى تثبته، والكيفية
تفوضه.. انظر: إلى قول أم سلمة وربيعة مالك: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير
معقول"..
الاستواء غير مجهول: أي معلوم، ويؤكده ما جاء في بعض الروايات: "الاستواء
معلوم".
والكيف غير معقول: أي مجهول، ويؤكده ما جاء في تتمة الرواية: " والكيف
مجهول".
فهل شيء أصرح من هذا في بيان منهج السلف؟..
ثم قول محمد بن جعفر صريح للغاية كذلك حيث قال: " من غير تكييف".
وقول الأئمة: الأوزاعي وسيفان مالك والليث: أمروها بلا كيف.
وقول أبي عبيد: إذا قيل:
كيف وضع قدمه، وكيف ضحك؟.
قلنا: لا نفسر هذا، ولا سمعنا أحدا يفسر هذا..
كل تلك النصوص لا تدفع إلا بالمكابرة
والتغافل عن الحقائق والتعلق بالمتشابهات.. وأقصد بالمتشبهات ما يرد عن
الأئمة من أقوال يتمحل المخالف في فهمها وحملها على المعنى الذي يريده، وهو
تفويض المعنى..
من ذلك ما جاء عن السلف ومنهم مالك قولهم :
أمروها بلا تفسير..
فقد تعلق بهذا المخالف ليثبت زعمه أن منهج السلف هو تفويض المعنى، ولا أدري
كيف أخذ من قولهم: أمروها بلا تفسير.. أنهم يفوضون المعنى؟..
مع أن المعنى ظاهر.. بلا تفسير، أي بلا تكييف، فالمفسر هو المكيف المبين
حقيقة الشيء، أما المثبت للمعنى فلا يقال عنه مفسر، لأنه ما فسر بل اكتفى
بإثبات المعنى على ما يليق به على وجه الحقيقة، والتفسير يكون لما انبهم من
الكلام، وأما صفات الله تعالى فليست مبهمة المعنى، بل المعنى معلوم، لكن
الكيف هو المجهول، فالكيف هو الذي يحتاج إلى تفسير، ولما كانت الكيفية مجهولة
للخلق، ولا مطمع في إدراكها قال السلف:
أمروها بلا كيف.
على أنه لو فرضنا أن قولهم: " أمروها بلا تفسير "، يحتمل تفويض المعنى، فيجاب
عن ذلك بأن نقول:
قد جاء التصريح عنهم بإثبات المعنى وتفويض الكيفية، كما في قول أم سلمة
وربيعة ومالك ومحمد بن جعفر وأبي عبيد والاوزاعي والليث وسفيان وغيرهم،
فقولهم ذلك لا يحتمل إلا شيئا واحد، وهو تفويض الكيفية لا المعنى، فإذا جاء
عنهم قول يحتمل الوجهين: تفويض المعنى أو الكيفية، وقول يصرح بوجه واحد وهو:
تفويض الكيفية، فالصواب حمل المتشابه على المحكم.. وتفسير القول المحتمل
بالقول الصريح.
هذا لو كان ذلك الصريح من قولهم قول لطائفة منهم، فكيف إذا كان هو القول الذي
أطبقوا عليه؟..
ومما تعلق به المخالف أيضا، قولهم: " أمروها
كما جاءت".
وكما قلت: هم يتعلقون بالكلمة ويتركون نصوصا كالجبال في الرسوخ، فهذه الكلمة
إنما معناها: إمرارها بلا كيفية، وليس المقصود إمرارها بلا معنى، ومما يدل
على هذا أن الإمام أحمد سئل عن معنى أحاديث نفي الإيمان عن الزاني والسارق
وشارب الخمر: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فأجاب بقوله:
" أمروها كما جاءت" الفتاوى 13/295..
وهذا الذي سئل عنه ليس في باب صفات الله تعالى، فلم قال ذلك؟.
وكذلك لما سئل عن الحرورية هل يكفرون؟، قال:
" اعفني من هذا، وقل كما جاء فيهم في الحديث"، مسائل الإمام أحمد لابن هانيء
2/158..
هذا يدل على أنهم كانوا يستعملون هذه العبارة، ويعنون عدم صرفها عن ظاهرها
المتبادر إلى الذهن. ويقال أيضا: لو كان المعنى من قولهم: " أمروها كما
جاءت"، تفويض المعنى، لكان الصواب أن يقولوا:
أمروا لفظها..
- ومما تعلق به المخالف قول للإمام أحمد رحمه
الله تعالى فيه تفويض الكيفية:
قال أبو يعلي:
" وقال – أحمد – في رواية حنبل في الأحاديث
التي تروي، إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا، والله يُرى، وأنه
يضع قدمه، وما أشبه بذلك: نؤمن بها ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى! ولا نرد
شيئا منها، ونعلم أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم حق إذا كانت بأسانيد
صحيحة". إبطال التأويلات 1/45. فدليل المخالف هنا قول الإمام أحمد: " ولا كيف
لا معنى"..
والرد على هذا يكون من وجوه:
1-
حتى لا ينسب إلى الإمام ما لم يعتقده، لا بد من النظر في كافة الأقوال التي
وردت عنه في هذا المقام، وتفسير بعضها ببعض، كيلا يحمل كلامه على غير ما
قصده، أما الأخذ بقول واحد من أقواله والتغافل عن الباقي فهذا لا ريب أنه خطأ
منهجي، وهذا الملاحظ على المخالفين، حيث يتشبثون بكلمة أو كلمتين عن إمام من
الأئمة لترويج مذهبهم، دون أن يكلفوا أنفسهم دراسة كل ما ورد عنهم في هذا
الباب، ولو فعلوا وكانوا ذوي إنصاف وتجرد للحق لوجدوا الأمر خلاف ما يظنونه..
ولأجل هذا سنتبع هذا المنهج في البحث، لننظر في الكلمات التي وردت عن الإمام
أحمد في هذا المقام، ونقارنها بالكلمة السابقة لنرى مدى التوافق والتخالف..
هل بالفعل الإمام يرى تفويض المعنى؟.
- عن يعقوب بن بختان قال: سئل الإمام أبو عبدالله عمن زعم أن الله لم يتكلم
بصوت، قال:
بلى يتكلم سبحانه بصوت.. المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة
1/302.
هل يمكن للمفوض للمعنى أن يثبت أن الله تعالى يتكلم بصوت؟..
الجواب: لا، إن الإمام هنا يثبت أن الله تعالى يتكلم بصوت، وهذا إثبات
للمعنى، أما الكيفية فمجهولة..
- وفي رواية حنبل قال أحمد: "يضحك الله، ولا نعلم كيف ذلك؟".. المسائل
والرسائل 1/315.
أليس في هذا دلالة على أنه يفوض الكيفية دون المعنى؟… فلم يقل فيه: لا نعلم
معنى ذلك؟.
- وقال يوسف بن موسى: قيل لأبي عبدالله: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، كيف
شاء من غير وصف؟. قال: نعم.. المسائل والرسائل 1/348.
قوله: " من غير وصف".. أي من غير تكييف.. ولم يقل من غير معنى، بل أثبت
المعنى، وهو النزول.
- قال أحمد في حديث: ( خلق آدم على صورته)، لانفسره، كما جاء الحديث.. إبطال
التأويلات 1/80.
فقوله هنا:" لا نفسره" أي لا نتكلم في كيفيته، بل يأخذ بظاهر المعنى، وهو
المعلوم، كما جاء عن أم سلمة وربيعة مالك، والإجراء على الظاهر لايكون بتفويض
المعنى، لأن المفوض للمعنى لم يجره على الظاهر، بل عطل الظاهر أن يكون له
معنى، وأما المثبت للمعنى المفوض للكيفية هو الذي يصح في حقه أن يقال أجراه
على ظاهره.
إذن يتبين مما سبق أن القول بأن الإمام أحمد يفوض المعنى إنما هو تعلق
بالمتشابهات دون حمل كلامه بعضه على بعض، وتفسير بعضه ببعض، وقد رأينا كيف أن
منه ما هو صريح في إثبات المعنى وتفويض الكيفية، بل قد روى عنه الإمام ابن
تيمية قولا صريحا في المسألة، هو نقيض ذلك القول تماما، قال ابن تيمية:
" وقال عبدالعزيز بن الماجشون إمام أهل المدينة وأحمد بن حنبل رحمهما الله
تعالى: " إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وإن علمنا تفسيره
ومعناه" الدرء 1/207
2- من
الأسس التي لا يختلف فيها اثنان، أن قول الجماعة الثقات أهل الدين والعلم
مقدم على قول الفرد الواحد منهم، فلو فرضنا جدلا أن الإمام أحمد يقول بتفويض
المعنى، ورأينا أن جمهور السلف يقول بإثبات المعنى وتفويض الكيفية، فلا ريب
أن الأخذ بقول السلف وإجماعهم مقدم، وقد رأينا كيف أن السلف أجمعوا على ذلك،
قلت: هذا إذا فرضنا أن الإمام يقول بذلك، لكن الحقيقة أن نصوصه تشهد بأنه
يثبت المعنى ويفوض الكيفية..
3-
تلك الرواية كانت عن حنبل، وحنبل بن إسحاق من أصحاب الإمام أحمد، قال عنه أبو
بكر الخلال:
" قد جاء حنبل عن أحمد بمسائل أجاد فيها الرواية، وأغرب بغير شيء". طبقات
الحنابلة 1/143.
وقال الذهبي: " له مسائل كثيرة عن أحمد، ويتفرد ويغرب". سير أعلام النبلاء
13/52.
قال ابن القيم: "وهو كثير المفاريد المخالفة للمشهور من مذهبه، وإذا تفرد بما
يخالف المشهور عنه، فالخلال وصاحبه عبدالعزيز لا يثبتون ذلك رواية، وأبو
عبدالله بن حامد وغيره يثبتون ذلك رواية". مختصر الصواعق ص406
وقد رأينا أن تلك الرواية لم ترد إلا عن حنبل، بل نفس تلك الرواية وردت عنه
لكنها خالية من لفظة: "لا كيف ولا معنى".. فقد روى اللالكائي في كتابه شرح
أصول اعتقاد أهل السنة 3/453 قال:
" قال حنبل ابن إسحاق قال: سألت أبا عبدالله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي
تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله ينزل إلى السماء الدنيا)، فقال
أبو عبدالله: نؤمن بها ونصدق بها، ولا نرد شيئا مما جاء منها إذا كانت أسانيد
صحاح، ولا نرد على رسول الله قوله ونعلم أن ما جاء به الرسول حق …".
فأنت ترى هنا أن تلك اللفظة لم ترد في هذه الرواية..
فهذا يدلك على أن الرواية نفسها فيها ما فيها من حيث شهرة حنبل بتفرده
وإغرابه، وعدم إثبات طائفة من أصحاب الإمام أحمد بما انفرد به رواية عن
الإمام.
وبهذا يتبين أن القول بأن مذهب السلف هو
تفويض المعنى، لا ريب قول باطل، والصحيح أن السلف يفوضون الكيفية لا المعنى..
والله أعلم.