في بريطانيا يستنكر الرجال فكرة قيادة المرأة للسيارة، ويجد هذا الاستنكار
منافذ للتعبير كالفكاهة مثلا، فهذا صحفي بريطاني يكتب ساخرا من قيادة المرأة
للسيارة قائلا:
"أصبحت على قناعة تامة بأن البيرة والمشروبات الكحولية عموما تحتوي على
هرمونات أنثوية، وأنا مقتنع اليوم أن من يسرف في تناول الخمور يتحول إلى
امرأة، فالرجل حين يتعاطى تلك المشروبات تنمو أثداؤه ويأخذ بالثرثرة من دون
طائل، ويفقد القدرة على قيادة السيارة، وهذه كلها صفات نسائية".
وفي الشهر الماضي نشرت مجلة "ساترن" الرجالية الأمريكية إعلانا عن طلب نساء
متميزات ذوات قدرة فوق اعتيادية لقيادة السيارات، وجاء في الإعلان أن على
المتقدمات أن يتحلين بالصفات التالية:
1ـ
القدرة على قيادة السيارة من دون الانحراف إلى اليمين أو اليسار لفترة تزيد
على عشر دقائق.
2ـ
القدرة على التعرف على غطاء خزان
البنزين ومعرفة طريقة استخدامه.
3ـ
القدرة على تغيير إطار العجلة من دون استخدام الهاتف الجوال.
4ـ
القدرة على إيقاف أو صف السيارة في موقف عام من دون الاصطدام بأكثر من ثلاث
سيارات في المحاولة الواحدة.
ويبدو أن الإعلان لم يكن إلا طريقة للاستهزاء بالمرأة، والرجل البريطاني
مازال يرى أن المرأة تفتقد إلى الحصافة وحسن التدبير اللذين تتطلبهما قيادة
المرأة للسيارة، وكشفت دراسة حديثة نشرتها وزارة التجارة البريطانية أن أصحاب
تصليح السيارات يعمدون إلى استغفال النساء وتقاضي مبالغ طائلة منهن لإجراء
إصلاحات وهمية..
إذن يتضح مما سبق أن المجتمع الغربي مازال لايستسيغ قيادة المرأة للسيارة،
لكن قوانين المجتمع نفسه ترعى هذا الحق، الغرب إذن يفرض على المجتمع قانونا
لايرتضيه. ( مجلة المجلة عدد 1003)
إن الغرب هو أعظم ممتهن للمرأة في هذا العصر، ينظر إليها بعين النقص حقيقة،
فهي مجرد سلعة ومحل لقضاء الوطر، أجرها دون أجر الرجل، والعجب أنه في ذات
الحين يتهم البلاد الإسلامية وبخاصة المحافظة منها بأنها تمنع المرأة حقوقها
المشروعة، ويقصد بالحقوق هنا:
حق التبرج والاختلاط في التعليم والعمل والميادين العامة..
هذا التناقض من الغرب له ما يبرره، فإنهم قد جربوا كل الوسائل للقضاء على
الإسلام فلم ينجحوا، وجربوا في بلادهم المرأة وسيلة لتدمير أخلاق المجتمع
فنجحوا، ومن ثم صاروا يعملون على نقل تجربتهم إلى البلاد الإسلامية لتدمير
أخلاق المجتمعات المسلمة لأهداف معلومة لاتخفى..
وإذا كان الغرب له مبرراته في اتهام المسلمين أنهم يسلبون المرأة حقوقها، فإن
الذي لانجد له تبريرا إلى الآن انسياق جمع من أبناء المسلمين وراء ذات الدعوى
التي يروجها الغرب عن المرأة في بلاد الإسلام، فتجدهم بين الآونة والأخرى
يدعون إلى إعطاء المرأة حقوقها، وكأنها مسلوبة منها، والحقوق التي يريدونها
هي:
كشف الوجه، العمل مع الرجال، قيادة السيارة..
فإذا حصلت هذه الثلاثة في زعمهم فقد نالت الحقوق!!، هذه أسمى ما تتطلع إليه
المرأة كما يصورون الأمر، فهل الأمر كذلك؟..
كشف الوجه حق للمرأة، والتغطية سلب لحقها، وعمل المرأة مع الرجال خارج البيت
حق للمرأة، فإذا مكثت في بيتها ترعى النشء فهي مسلوبة من حقها، وقيادة
السيارة من حقوقها فإذا منعت فذلك مصادرة لحقها، هل توافقون على هذا؟!!..
إذا غطت المرأة وجهها أمنت من التحرش، وسلمت من النظر الحرام، وخطاب الأعين،
فخرجت ودخلت آمنة، إذا غطت سلم قلب الرجل من الفتنة، وزكت نفسه، وحفظ فرجه،
فإذا كشفت دار الشيطان بكأسه في عقل الرجل، فصار يدور حول المرأة كدوران
الحمار حول الرحا يريد أن يطحن العرض ويدوس الكرامة، فأيهما حق للمرأة:
آلتغطية أم الكشف؟..
هل من حقوق المرأة أن تغدو عرضة لسهام النظرات، واعتداء الكلمات، ومصيدة
التحرشات، وهتك الأعراض، أم أنها حقوق الرجل الفاسق الذي يريد أن يمتع ناظريه
بهذا الجمال البشري دون عائق من خمار أو نقاب؟!.
ومن عدم الدقة في النقل أن يقول دعاة حقوق المرأة:
"المسألة خلافية، فطائفة من العلماء يبيحون كشف الوجه"!..
فهذا النقل لايمثل حقيقة موقف المجيزين، فإن العلماء المجيزون لكشف الوجه
قيدوا ذلك بقيود هي:
إذا أمنت الفتنة، وإذا لم تكن المرأة فاتنة أو شابة، أي أنهم يقولون: إذا كثر
الفساد في الناس، وإذا كانت المرأة فاتنة أو شابة حرم عند جميع العلماء بلا
استثناء ..
لكن هؤلاء الذين يروجون لكشف الوجه لايذكرون هذه القيود، إما لجهلهم بها،
وإما لأنها تتنافى مع أهدافهم، فيظن من يسمعهم أو يقرأ لهم من عامة الناس أن
المسألة بالفعل خلافية على النحو الذي يذكرونه من أن المجيزين يجيزون
بإطلاق.. وليس كذلك..
إن كثرة الكلام عن هذه القضية وعلى أصعدة متعددة أمر يثير الريبة، فلم يحدث
في تاريخ الأمة أن اجتمع العلماء المجيزون لكشف الوجه ليخرجوا على الأمة
مجتمعين يدعون النساء إلى إزالة غطاء الوجه بدعوى أن المسألة خلافية، كانوا
يذكرون ذلك في كتبهم من باب التفقيه فحسب.. أما أن يرتقوا المنابر ويتصدروا
المجالس والمنتديات ليقرروا ما ترجح لديهم بإصرار وإلحاح لاينقطع ليحملوا
نساء الأمة على كشف الوجه فذلك لم يفعلوه ولم يحصل في تاريخ الأمة، مع أنهم
هم الأحق بذلك إن كان في ذلك خير، لأنهم مجتهدون ينطلقون من الشرع وقصدهم
نصرته، وهم الذين توصلوا إلى هذا الحكم، لكن ما فعلوا، لماذا؟..
لأنهم كانوا وهم المجيزون للكشف يعلمون أن التغطية أفضل، ولذا كانوا يدعون
الأمة إلى الأفضل، فهذا هو حال العالم الصالح الذي يحب أمته ويريد لها
الخير..
أما ما يفعله هؤلاء المستغربون من الدعوة بإلحاح وعلى كافة المستويات مع
التلفيق والتلاعب بأقوال العلماء فليس له إلا تفسير واحد هو أنهم:
قد كرهوا هذا الحجاب!..
كرهوا ما أنزل الله!..
كرهوا استتار المرأة وعفتها!..
وضاقت صدورهم ببعدها عن الرجال، لذا فهم يرمون بكل سهم لديهم لتحطيمه
وتمزيقه، ولما كانوا يعلمون أن من الصعوبة بمكان محاربته علنا، لجؤوا إلى
محاربته من خلال الدعوة إلى:
كشف الوجه بدعوى أن المسألة خلافية، وإلى عمل المرأة وقيادة السيارة بدعوى
أنه ليس هناك نص يمنع من ذلك..
وهنا نعود للمشكلة ذاتها، وهي قضية التمسح بالدين والتلاعب بأقوال العلماء،
نقول:
إن فئة من الداعين إلى هذه الأمور هم ممن لايعنيهم الدين لا من قريب ولا من
بعيد، وإنما يخاطبون الناس بحسب ما يفهمون، فالمجتمع متدين، فكيف تقنعه بفكرة
تحرير المرأة؟..
لابد إذن من سند من الدين حتى يتقبل، ونحن نعلم أن هناك فئة أخرى مغررة
مخدوعة لاتدرك حقيقة الأمر تقوم بنفس الدعوى وتتحمس لها بنفس المقدار، وإلى
هؤلاء وعموم الناس نقول:
إن من الجهل الكبير أن يظن أنه لابد في كل مسألة من نص صريح، فمن يقول:
"ليس هناك نص يقول: يحرم على المرأة قيادة السيارة والعمل في ميادين
الرجال"..(مع العلم أن النهي عن اختلاط المرأة بالرجال قد وردت فيه نصوص
صريحة، لكن كلامنا هنا معهم في قيادة السيارة)
هو في الحقيقة يقصر أصول الأحكام على أصلين فحسب هما: الكتاب والسنة..
وهذا خطأ شنيع، مخالف لإجماع علماء الأمة في كل عصر ومصر، فقد انعقد إجماعهم
على أن أصول الأحكام أربعة هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فمن يقول:
"ليس هناك نص، فالحكم إذن هو الإباحة"..
هو في الواقع يهدم ركنين هامين من أصول الأحكام هما:
الإجماع والقياس..
إن الدين أتى بأحكام كلية، وأمر علماء المسلمين أن يستنبطوا أحكام الجزئيات
من الكليات، وأن يبنوا الفروع على الأصول، ولو أخذ الإسلام ببيان حكم كل شيء
بالنص لما اتسع لذلك آلاف الأوراق ومئات المجلدات، ولكان في ذلك تعطيلا
للعقول عن الاستنباط والفهم..
إذن هناك أحكام نستخرجها من الأصول الشرعية، فإذا جدت حوادث لم تكن من قبل
نبحث عن أصول لها في المصدرين، ثم نقيس الفرع على الأصل فإذا اتحدت العلة
اتحد الحكم، وهذا هو القياس، وعلى ذلك فالمحرمات نوعان: محرم بالإصالة، وهو
ما كان لنص، ومحرم بالتبع، وهو ما كان بالقياس.
ثم ههنا قاعدة عظيمة ذكرها العلماء هي: أن
"وسيلة المحرم محرمة"..
فما كان سببا للحرام فهو حرام، وهذه هي قاعدة سد الذرائع ..
حرم الجلوس في مائدة تدور فيه الخمر لأنه وسيلة إلى شربه..
حرم على المرأة أن تضع ثيابها في غير بيتها لأنه وسيلة لهتك العرض..
حرم الصلاة في المقبرة لأنه وسيلة للشرك..
وهكذا يبين لنا الشارع أن من المحرمات ما هو محرم لذاته كالشرك والزنا
والربا، ومنها ما هو محرم لغيره، لأنه يفضي إلى محرم، كأن تضع المرأة ثوبها
في غير بيتها، والقيادة والعمل من هذا النوع.
هؤلاء يقولون: "ليس هناك نص يقول: تحرم قيادة المرأة للسيارة"..
ونحن نقول: " ليس هنالك نص يقول: يحرم الدخان"، وليس هناك نص يقول: "لاتقطعوا
إشارة المرور"..
لكنا قد علمنا بالتجربة وسؤال أهل الشأن أن الدخان ضار بالصحة فحرمناه واجتمع
أمرنا على ذلك، وعلمنا بالنظر والمشاهدة خطر قطع إشارة المرور فاجتمعنا على
تحريمه، فلن يقول أحد من هؤلاء الذين يريدون نصا على كل حكم:
"أين النص على ذلك"؟..
لماذا؟..
لأننا رأينا الخطر بأم أعيننا وشعرنا به، وهذا إقرار منهم بأن الحكم على
الشيء بالمنع لايتوقف على النص فحسب، بل هنالك قرائن وأحوال إذا علمت وتحقق
من ضررها كانت كافية في الحكم بالحرمة والمنع، وهذا تسليم منهم بأن وسيلة
المحرم محرمة وبقاعدة سد الذرائع، وهذا يدل على أن هذه القاعدة فطرية، ففطرة
الإنسان تأبى سلوك الطريق الذي يفضي إلى المخاطر، ولو كان الطريق آمنا..
لكن المشكلة في مثل قيادة المرأة للسيارة أن الخطر فيها غير محسوس على المدى
القريب، بل الخطر بعيد، وقد لايكون بعيدا ذلك البعد، لكنه على كل حال ليس
محسوسا للوهلة الأولى بل هو بطيء، ومن هنا ينشأ الخلاف ويتسنى التلاعب بالحكم
لمن أراد تغرير الناس..
لكن أولي العلم والمعرفة شعروا بهذا الخطر من عدة جوانب:
من حيث إن المروجين له في الغالب هم من المستغربين والمستغربات.
ومن حيث الاطلاع على تجارب البلدان الأخرى فقد كانت النتيجة الحتمية هي نزع
الحجاب والاختلاط.
ومن حيث إنها مناقضة مناقضة صريحة لحكم الشارع للمرأة بالقرار في البيت
والستر والحجاب، والقيادة، وكذا العمل، لاشك ولاريب أنهما سيقضيان على ذلك
القرار وهذا الحجاب، إن لم يكن برضا المرأة وأوليائها فبالضغط الاجتماعي، كما
حدث في البلدان التي استجابت لهذه الفكرة فبدأت بالسماح للمرأة بأن تقود
السيارة وفق شروط مشددة:
أن تكون فوق الثلاثين، أن يأذن ولي أمرها، ثم تغير الأمر وانحل التشدد فأذن
لمن كانت في العشرين، وحوربت المحجبات وطالب المعارضون بمنع المحجبة من
القيادة.
فهذه نتيجة حتمية لأية أمة تقبل بوضع قدمها في أول الهاوية، فالخطوة تتبعها
خطوات..
وأخيرا فمن عجب أن البريطانيين لم يستسيغوا إلى الآن وبعد مرور قرن على تحرر
المرأة أن تقود السيارة، وهذا الخبر له دلالته، إن الغرب هو داعية التحرر
والمساواة، وقد تحررت المرأة هناك وفعلت ماتشاء وقادت السيارة، ثم ماذا
كان؟..
الغرب يشعر الآن ـ وبعد التجربة ـ أن القيادة لا تلائم المرأة، لكنه لم يقل
يوما ولن يقول إنها لن تصلح للأمومة والتربية وعمل البيت، وشعوره هذا مبني
على حقائق وأدلة لا على أوهام..
فهو يرى كل يوم النساء وهن يقدن السيارات، ولاشك أنه يلحظ ارتباك المرأة
لأدنى موقف مما قد تتسبب في جلب الضرر للآخرين، فقيادة السيارة تحتاج إلى
هدوء أعصاب وضبط للنفس، والمرأة انفعالية عاطفية تتأثر لأدنى موقف، وهذه
الصفات لاتتناسب مع قيادة السيارة، ولذا فإن قيادتها تعني كثرة الحوادث..
قد نجد بعض النساء يجدن القيادة، لكن الحكم يتبع عموم أحوال الناس لا خصوص
أفرادهم، وإلا فكل شيء له عموم وخصوص، فلو بنينا أحكامنا نظرا إلى أحوال بعض
الأفراد دون النظر إلى العموم فإننا نكون قد عطلنا مصلحة الجماعة مقابل مصلحة
الفرد، وهذا لا يجوز شرعا، فإن أحكام الله الكونية والشرعية تقوم على تحقيق
مصلحة العموم، ولو كان في ذلك تضييع مصلحة لبعض الأفراد.
ولعل هناك من يقول بأن هذا انتقاص للمرأة؛.
وليس الأمر كذلك، فالمسألة تخصص، فالله لم يخلق المرأة لتقود المركبات، بل
هذه مهمة الرجل، لأنه مكلف بالسعي، والقيادة مرتبطة بالسعي، بل خلقها لتنشئة
الأجيال في المقام الأول، وهذه الوظيفة من أعظم الوظائف، لأنها التي تصنع
الرجال، وصناعة الرجال من اختصاص المرأة ولايتقنها غيرها، فمن الخطأ
الاستهانة بهذا العمل الجليل، ثم إننا نقول:
إن الرجل لايصلح لاحتضان النشء، فهل هذا يعني أننا ننتقص الرجل؟..
بالطبع لا، فوضع الأمور في نصابها ليس انتقاصا بل هو حق وعدل، ولولا الحق
والعدل ما قامت السموات والأرض، وعلى كل فهذه نافلة من القول، وإلا فالحكم في
القيادة للمرأة أنها محرمة سواء كانت تتقنها أم لا، فقيادة المرأة للسيارة
قيادة للأمة إلى الهاوية، ومثل ذلك خروج جميع نساء الأمة للعمل إنما هو بلاء
وخطر..
ندعوا الله أن يجنبنا الفتن، وأن يدفع عنا غضبه، وأن يهدي ضال المسلمين، وأن
يصلح ولاة أمورنا، ويثبتهم على الحق، وينفي عنهم شر الأشرار، وأن يدفع عنا
كيد الكائدين