الأرض تموج بالفتن..
وأهل الملة الواحدة غارقون في الاختلاف..
وإذا كان من الطبيعي اختلاف أهل الملل الباطلة، من نصرانية ويهودية وغيرها،
إلا أن المزعج حقا اختلاف أهل الملة الحقة، أهل الإسلام..
فدينهم واحد، وهو دين صحيح، ومصدره محفوظ باق، لم تنله الأيدي المحرفة، كما
حصل للتوراة والإنجيل، قال تعالى عن اليهود:
{ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه}..
وإذا كان الله تعالى قد حفظ مصدر الدين الإسلام من التحريف قال تعالى:
{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}..
فلا معنى حينئذ للاختلاف الذي يفضي إلى القطيعة والتناحر.
نحن نريد أن نضع أيدينا على موضع الداء:
ما سبب خلاف المسلمين، وما علاج هذا الخلاف؟.
إن السبب لا ريب هو عدم القيام بالكتاب والسنة، وعدم طاعة الله تعالى والرسول
صلى الله عليه وسلم، فكل مخالفة لحكم شرعي ثابت يسبب اختلافا بين المسلمين،
قال تعالى:
{ ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا
بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}..
فدلت الآية على أن نسيان حظ من الشرع وترك العمل به يفضي إلى العداوة
والبغضاء..
فما نراه من خلاف بين المسلمين اليوم من أهم أسبابه أنهم لا يطيعون أمر الله
تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا يعارضه بعقله، وآخر يعارضه بحكم
قبيلته وعشيرته، وثالث يعارضه بالهوى واتباع الشهوات..
جميل من الإنسان أن يفكر وأن يحاول فهم النصوص والحكمة منها، لكن أن يجعل
عقله هو الحاكم على النص الشرعي، إن قبله عمل به، وإلا نبذه، فهذا مخطيء، حيث
يكون بفعله قد أعطى عقله قدرا فوق ما يستحق، فليس شرطا أن نفهم العلة والحكمة
من الحكم الشرعي، ولم يأمرنا الله بذلك، ولم يعلق اتباعنا للحكم الشرعي بفهم
الحكمة منه..
قال الإمام الزهري:
"من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم" .
وقال الإمام الطحاوي:
"ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام" .
وفي الإنجيل:
" يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا؟، ولكن قولوا: بم أمر ربنا".
فنحن إذا كنا مصدقين أن هذا الحكم من عندنا الله تعالى فالواجب أن نتبعه، ولو
كنا لم نفهم الحكمة، هذا مقتضى من مقتضيات الإيمان، فالمؤمن يؤمن بالغيب،
ويصدق به، وانظروا كيف أن الصديق رضي الله عنه لما أخبرته قريش بخبر الإسراء
والمعراج، قال:
لئن قال ذلك لقد صدق.
قالوا: أتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟.
فقال: نعم، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء، في غدوة أو
روحة.
لما كان أبو بكر واثقا من صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل عقله هو
الحاكم في تصديق الخبر أو رده..
فإن العقل قد يستبعد ذهاب وإنسان وعودته في ليلة من مكة إلى الشام في ذلك
الوقت، وإن كان اليوم لا يستبعد ذلك، فنحن اليوم نصدق بخبر الإسراء لأنا
رأينا المثال، فالطائرات يمكنها الذهاب والعود في ليلة، لكن أبا بكر صدق
إيمانا وتسليما، بل عقله الصحيح قاده إلى التصديق..
فالعقل والشرع متفقان، فالكل من عند الله العقل والحكم، ولا يمكن أن
يتعارضا..
فإن شعرنا بنوع تعارض بين حكم الله وبين حكم العقل، فذلك مرده ضعف عقولنا، لا
النقص في حكم الله تعالى...
عقولنا التي تنسى وتضعف وتخرف وتذهل لا يمكن أن تكون حكما على شرع الله تعالى
من حيث القبول أو الرد وهذا حالها..
لكن كثيرا من الناس قد تعبد عقله، فما يقبله عقله فهو الحق، وإن عارض حكم
الله صراحة، وما ثبت في حكم الله صراحة رفضه إن كان عقله لا يفهمه ولا
يستوعبه، وعجب أن الإنسان يعول على عقله، وهو الذي يعلم عن نفسه أنه كثيرا ما
يقرر ويجزم في أمر ما، ثم يأتي من غد ينقضه ويتراجع عنه، لأن عقله غفل عن بعض
الحقائق، فكيف يجعل هذا العقل المتردد في اتخاذ القرار حكما على شرع نزل من
رب العالمين، الذي لا ينسى ولا يضل ولا يغفل؟..
إذن هذا سبب من أسباب الخلاف، وهو اتباع العقل ولو أدى إلى إلغاء النص..
هذا السبب ليس قاصرا على عامة الناس، بل هو داء ابتلي به من ينتسب إلى العلم
والدعوة، فكم من أمر شرعي رد و عطل بسبب التخريجات العقلية لبعض الناس، وإذا
كان العامة يكتفون برد النصوص بدعوى أن العقل لا يقبل، فإن هؤلاء المنتسبين
للعلم يعظم خطرهم جدا عندما يلوون أعناق النصوص ويتلاعبون بالآيات ومعانيها
والحديث وشروحها كي تقرر ما يريدون تقريره، ولو كان مخالفا للنص الشرعي
صراحة..
وهنا نأتي إلى لب هذه القضية، وهي:
أن جميع المسلمين يؤمنون بأن المصدر هو الكتاب والسنة، ولا أحد من المسلمين
يزعم أو يقدر أن يقول:
أنا لا أتبع الكتاب والسنة..
فالجميع يدعي ذاك..
لكن من الذي يصدق ومن الذي يكذب؟..
هذه المسألة مهمة للغاية..
أن نعرف من الذي بالفعل على الكتاب والسنة يعمل بهما، لا يخرج عن تعاليمهما
أبدا؟..
ومن الذي يدعي ذلك؟..
فمعرفة هذه القضية جيدا تبين لنا من الذي على الحق، ومن المدعي اتباع الحق،
وهو ليس كذلك؟..
إذ إن معرفة الحق وتبينه للناس مما يزيل الخلاف بين المسلمين، ويجعلهم أمة
واحدة كما ينبغي لها أن تكون.. قال العرباض بن سارية:
صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل بوجهه علينا، فوعظنا
موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل:
يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟..
قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم
بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين،
تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة
بدعة، وكل بدعة ضلالة...
في هذا الأثر لفت نظر وتصريح إلى أن هناك ((شيئا ثالثا)) يجب أن ينضم إلى
الكتاب والسنة ليكون مصدرا أو قل مقررا ومبينا ومحددا للحكم الشرعي الواجب
اتباعه وللخبر الشرعي الواجب اعتقاده، وهو في قوله:
(((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها
بالنواجذ))).
فهناك سنة الخلفاء الراشدين، وهم الأربعة:
أبو بكر وعمر وعثمان علي، ومن سار على سبيلهم كعمر بن عبد العزيز الذي أجمع
العلماء على أنه من الخلفاء الراشدين..
وإذا ضممنا إلى هذا الأثر قوله عليه الصلاة والسلام:
(خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم إن بعدهم قوما يشهدون
ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن) ..
عرفنا أن المصدر الثالث الذي هو في الحقيقة مقرر ومبين للمصدرين، الذي يجب
اتباعه هو:
نهج السلف، أهل القرون الثلاثة الأولى، وأهلها هم:
(((الصحابة رضوان الله عليهم والتابعون وتابعوهم، إلى نهاية القرن الثالث))).
هؤلاء هم الحجة على العباد في دينهم، فقولهم في الدين هو القول المقدم على
قول غيرهم مطلقا إذا تعارضا..
وذلك أن كل أهل المذاهب العقدية تزعم وتنادي باتباع الكتاب والسنة، ومع ذلك
ترى الخلاف البين الذي لا يمكن معه الاجتماع ولا التآلف، أي التخالف في
العقيدة ومسائل توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات..
فكيف جميعا ندعي أننا على الكتاب والسنة ثم يقع هذا الخلاف القوي البين الذي
لا يمكن التغاضي عنه، الذي لأجله يصبح الناس شيعا وأحزابا، كل حزب بما لديهم
فرحون؟.
لا شك أن هناك خللا.. فأين الخلل؟..
الخلل هو عدم اتباع السلف من صحابة وتابعين ومن تبعهم إلى القرون الثلاثة
الأولى المفضلة المشهود لهم بالخيرية..
فهؤلاء الذين هم من الفرق الضالة المخالفة لأهل السنة والجماعة، من:
معتزلة وأشاعرة ورافضة وصوفية وخوارج..
نعم يدعون اتباع الكتاب والسنة.. وعند هذا الحد تختلط الأمور فلا يعرف الحق
من الباطل، لكن ما أن نضع الميزان حتى تستبين الأمور ويجلو الحق..
(( الميزان هم السلف))..
فإذا نظرت وجدتهم مخالفين للسلف، ليسوا على منهجهم، ولا فقههم، ولا
اعتقادهم..
(( وهذا ما يميز بيننا وبينهم))..
نحن لا ننفرد بتفسير الكتاب والسنة، بل نحن عالة على السلف، لأنهم أكمل
عقولا، وأسد فهوما، وأعظم إيمانا، وهم أهل رضا الله عز وجل، وشهادة النبي صلى
الله عليه وسلم لهم بالخيرية، وكيف لنا أن نحصل مثل هذه المزايا؟.. وكيف لمن
بعدهم أن تكون لهم مثل تلك المرتبة؟..
بل يجب علينا شرعا اتباعهم في تفسير نصوص الشرع لما سبق من أدلة، ولقوله صلى
الله عليه وسلم:
( تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من
هي يا رسول الله؟، قال: ما أنا عليه وأصحابي) .
(((فالناجية هي التي تكون على ما كان عليه الصحابة)))...
(((فهل بعد هذه الحجة حجة، في وجوب اتباع السلف وتعظيمهم؟)))...
وإذا كان كذلك، فيجب أن يكون تلقي الكتاب والسنة عن طريق فهمهم وشرحهم
وتفسيرهم ومنهجهم.. فإذا عملت الأمة بذلك سلمت من الخلاف.
(((وكل الدعوات والمذاهب الباطلة، لا تعمل بهذا الأصل الأصيل، والركن العظيم
من أركان الدين، بل هي تعمل بالكتاب والسنة بفهم غير السلف، وتنتهج نهج من
حذر السلف منهم ضرورة..)))
بل تبالغ في ذم السلف، أو على الأقل ذم من يعظمهم ويتبع أقوالهم... وتلك
علامتهم......
لكن ههنا مسألة..
بعض أهل المذاهب الباطلة تجده يحتج
ببعض السلف في بعض المسائل، مما قد يحدث لبسا عند من لم يعرف الأمر على وجهه،
وهنا نقول لا بد من فهم أمر مهم جدا، وهو:
أن هناك قضايا كثيرة أصلية في الدين اتفق عليها السلف لم يختلفوا فيها أبدا،
ومن خالفهم في ذلك أخرج من زمرة السلف وشنع عليه، فقد خرج في عهد السلف من
يقول بالقدر وبالإرجاء ممن كانوا أئمة علم، فاجتمع أمر السلف على الإنكار
ومحاربة تلك البدع التي حدثت، فهاهنا لا إشكال، فلا يمكن لمن فكر أن يقول:
آخذ بما انفرد به ذلك الإمام المخالف، وأدع أقوال الأئمة الباقين، الذين
يمثلون السواد الأعظم، بل ذلك المخالف لا يمثل شيئا بالنسبة لهم..
بل الواجب والدين أخذ ما اتفق عليه سلف الأمة، فالأمة لا تجتمع على ضلالة،
وهذا هو سبيل المؤمنين، وهو ما يسمى بالإجماع، كما قال جل وعلا:
{ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما
تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}..
فأمر باتباع سبيل المؤمنين، وحذر من مخالفتهم.. فدل على أن الواجب اتباع أمر
الجماعة..
وإذا كان الخلاف يحتمله الدليل كان الأولى اتباع السلف، فكيف إذا كان خلافا
خارجا عن حد الدليل؟..
كما في مسألة القدر الذي زعم فيه المعتزلة أن الله تعالى لا يخلق أفعال
العباد، ومسألة الإرجاء الذي زعم فيه المرجئة أن الإيمان اعتقاد القلب ونطق
اللسان دون عمل الجوارح، فهذه المسائل بينة الضلالة والجنوح عن طريق الهداية،
ومخالفة للكتاب والسنة صراحة.
هناك مسائل مما يسوغ فيها الخلاف، اختلف فيها السلف، فجمهورهم ذهب إلى قول،
والباقون ذهبوا إلى غيره، فالواجب في مثل هذه الحالة اتباع قول الجمهور إذا
كانت مسألة عقدية، أما إذا كانت مسألة فقهية فيتسامح فيها مالا يتسامح في
المسائل العقدية..
إذن نجمل الأمر الذي به نجتمع، ونفهم الكتاب والسنة فهما دقيقا صحيحا، ونقطع
على المدعين الطريق لادعائهم العمل والاتباع للكتاب والسنة، هو كما يلي:
1_
فهم الكتاب والسنة والعمل بهما وفق فهم السلف الصالح وعملهم، من صحابة
وتابعين ومن تبعهم، أهل القرون الثلاثة الأولى المفضلة..
2_
إذا اختلف السلف في مسألة ما ينظر إذا كانت فقهية، فالأمر واسع، والأولى
اتباع الجمهور.
وإن كانت مسألة عقدية ينظر أيضا:
فإن كانت من فروع العقيدة، فالأمر واسع، والأولى اتباع الجمهور.
أما إن كان مسألة عقدية أصلية، فهنا يجب اتباع الجمهور وترك قول من خالفهم،
وقول الجمهور وإجماعهم هو المعصوم لا قول من انفرد عنهم بقول مخالف.. وقول
الجمهور هو الذي يعد قولا للسلف، أما قول من خالفهم فلا يعد قولا للسلف.. مثل
مسألة الإيمان والقدر، وقد سبق ذكرهما.
إذا اعتقدنا هذا الأصل المهم، واعتنقناه، ومشينا عليه، قضينا على الخلاف،
وميزنا الصادق من الكاذب في دعواه العمل بالكتاب والسنة.
....
في مقالات قادمة سيأتي بسط لهذه
القضية إن شاء الله
رابط الموضوع للفائدة