الحياة كالبحر الكبير ( المحيط)، فيه جزر متناثرة، القليل منها فيها الأمن
والرغد، وأكثرها جرداء لا حياة فيها أو موحشة تقطنها السباع..
والناس في هذا البحر يصارعون الأمواج المتلاطمة، فبعضهم يجيد السباحة، وبعضهم
لايجيد فهو يغرق.. فأما المجيدون للسباحة فقليل منهم من يعرف طريق الجزيرة
الآمنة الصالحة للحياة، وأكثرهم يتجهون إما إلى الجزر الجرداء أو الموحشة،
وإما يتجهون إلى عمق البحر الكبير..
وهم في كل ذلك يطلبون النجاة!..
هنا يبرز المنقذون، الذين يجيدون السباحة، ويعرفون طريق الجزيرة الآمنة،
ويدركون أهمية النجاة، لينقذوا الغرقى من الغرق، وليدلوا التائهين إلى الطريق
الصحيح...
لكن العجب أن كثيرا من الغرقى يرفضون عونهم، وكثير من التائهين يعرضون عن
توجيهاتهم!!!!..
فمن هم هؤلاء المنقذون؟..
المنقذون من مهلكات هذه الحياة هم
المصلحون، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش
وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، والرجل يزعهن، ويغلبنه فيقتحمن
فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها) البخاري في الرقاق،
باب: الانتهاء عن المعاصي..
فهؤلاء الغرقى والتائهين كالهوام والفراش تأتي إلى النار لتقع فيها ظنا منها
أنها نور وحياة، والشفيق يذب ويطرد حتى لاتقع فتحترق..
ومثل جماعة يتجهون إلى حفرة فيها نار، وناصح يمسك بثيابهم يمنعهم من المضي،
وهم يجاذبونه ثيابهم.. يدفعونه بأيديهم.. يشتمونه.. ويؤذونه.. ويأبون إلا
السقوط في حفرة النار، وربما جروه معهم..
قال رسول الله:
(إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت
الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه
فأدلجوا، فانطلقوا على مُهلتهم، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم
الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من
عصاني، وكذب بما جئت به من الحق) مسلم في الفضائل، باب: شفقته صلى الله عليه
وسلم على أمته ومبالغته في التحذير ممايضرهم..
إن الناس كلهم غرقى إلا من رحم الله، ينظرون إلى منقذيهم نظرة استكبار وعناد
وقلوبهم تئن مما بها من العطش إلى الهداية والرحمة، إنهم يكابرون، ويزعمون
أنهم على بر الأمان، في جزيرة الخيرات، فيمتنعون على منقذيهم أشد الامتناع،
ولو صدقوا مع أنفسهم لشهدت عليهم فطرهم بأنهم هلكى حيارى ماداموا لم يذلوا
لرب العالمين، ولم ينصاعوا انصياعا كاملا لهدي النبي الأمين..
لكن بالرغم من كل ذلك الإعراض والعناد والرفض منهم للنجاة لاينبغي للمنقذين
أن يتركوا نجدتهم وإنجائهم من الغرق، فهم إلى اليوم لم يدركوا حقيقة الأمر،
ولم يقفوا على حقيقة الطريق الذي هم فيه، فهم في عمى أعماهم الشيطان بما زين
لهم من الشهوات والملذات، يظنون أنفسهم في بر الأمان، وهم في الحقيقة يصارعون
أمواجا عاتية ويتجهون إلى جزر موحشة، فهم في وهم كبير..
فمن الذي يخرجهم من هذا الوهم قبل أن يهلكوا؟!.
من الذي يمد إليهم يد العون ولو رفضوا؟.
من الذي يصبر على إعراضهم ولو آذوا وظلموا؟.
ليس أهل لذلك إلا من سار على نهج الأنبياء في الدعوة إلى الله، إنهم العلماء
وطلاب العلم والمهتدون..
هم الذين يمدون أيديهم ويصبرون عليهم، هم الذين لديهم أمل كبير لاينتهي في
هدايتهم، كما قال رسول الله لما عرض له ملك الجبال أن يطبق الأخشبين على أهل
مكة جزاء إعراضهم:
(بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لايشرك به شيئا)
البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: إذا قال أحدكم "آمين" .
هم الذين يقومون بهذا الواجب لله تعالى لايرجون من أحد جزاء ولاشكورا،
لايكفون عن المحاولة تلو المحاولة لإنقاذ من يقدرون إنقاذه ولو آذوهم أو
عادوهم..
هذا المريض يحكم عليه الطبيب ببتر أحد أعضائه إبقاءً لباقي جسده فيرفض فهل
يستجاب لرفضه؟..
بالطبع لا، لأن رفضه يعني الموت، والمحبون له لن يرضوا بذلك، ولذا فإنهم
يصرون عليه أن يستجيب ويحملونه بالقوة على ذلك، لأنهم يعلمون أنه إذا عوفي
سيحمدهم ويرضى عنهم، وإذا لم يفعلوا سخط عليهم، كما قال رسول الله:
( من أسخط الله في رضى الناس سخط الله عليه، وأسخط عليه من أرضاه في سخطه،
ومن أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه، وأرضى عنه من أسخطه في رضاه حتى
يزينه، ويزين قوله وعمله في عينه) الطبراني في الكبير، انظر: السلسلة الصحيحة
5/395..
إن من الظلم ترك الغرقى بلا نجدة، كما أن من أظلم الظلم الغرق معهم، لمن كان
يعرف خطر الغرق، وعنده أسباب النجاة، وهذا مثل من علم طريق الحق والنجاة ثم
فرط في تعليمه من جهل، وزاد على ذلك بأن تشبه بالجاهلين في جهلهم، وسار في
طريقهم..
أفليس من السفه أن يترك العالم علمه ويقينه بحقائق الأمور فيغرق مع الغرقى من
أجل شهوة مال أو منصب أو خوف على دنيا؟..
بلى هذا هو السفه بعينه، قال تعالى:
{ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من
الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل
الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل الذين كذبوا بآياتنا فاقصص
القصص لعلهم يتفكرون}..
وقد أراد الغرقى في كل زمان ومكان أن يجروا معهم المنقذين وزينوا لهم الغرق،
مع أن الغرق لايمكن أن يزين، لأنه غرق وليس نجاة، فكيف يكون حسنا؟!..
ومع ذلك زينوه في عقول كثير من المتطلعين إلى الدنيا حتى غرقوا معهم، لكن
الصادقين امتنعوا ورفضوا بيع علمهم ويقينهم بثمن بخس، رفضوا أن يغرقوا بعد أن
هداهم الله وعرفهم طريق النجاة:
{ ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله
وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار}..
دعت قريش رسول الله إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون معبوده سنة، فأنزل الله
سورة الكافرون، وأمر رسوله فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية:
{ قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا
أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين}..
{قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت
إذاً وما أنا من المهتدين} انظر: تفسير ابن كثير..
ثم مارسوا معه نوعا آخر من أنواع الغرق، طلبوا منه شرط اتباعه أن يطرد
الفقراء فقال تعالى:
{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم
من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين} انظر: تفسير
ابن كثير..
وكذلك فعلت الغرقى مع نوح من قبل فقال لهم: { وما أنا بطارد المؤمنين * إن
حسابهم إلا على ربي لو تشعرون * إن أنا إلا نذير مبين}..
فهكذا يجب على المنقذ ألا يستجيب لدعوات الهالكين والتائهين أبدا، يجب عليه
أن لايستجيب لرغبات الغريق أبدا، فليس الغريق في موضع يؤهله لأن يرشد ويعظ،
بل هو محتاج إلى من يعظه ويرشده لينجو..
فإن زل واستجاب فإنه يظلم نفسه ويظلم الغرقى أيضا..
يظلم نفسه حين يضيع علمه وفهمه ومعرفته بطريق النجاة فيرضي لنفسه أن يكون
جاهلا هالكا مع الجاهلين الهالكين..
ويظلم أولئك حينما لايزجرهم ولايرشدهم وهو يراهم يتجهون إلى الغرق، وإلى
البقاع الموحشة والجرداء المهلكة، ولذا فإنهم يتعلقون بثيابه يوم القيامة
يشكونه إلى الله أن كان يراهم ساقطين ثم لم يمد يده إليهم بالنجاة..
إن العالم بالحق العارف بحقيقة الدنيا والآخرة عليه أن يؤدي هذه الأمانة التي
حملها بالعمل على هداية الناس ولو نفروا.. والصبر على ذلك ولو تنكروا.. وعدم
كتمان الحق أو التهاون فيه أو مجاراة أهل الهوى والشهوات.. لأن الله سائله
عنها.. وكم قد جاء الوعيد في القرآن لمن كتم علما أو اشترى به ثمنا قليلا،
قال تعالى:
{ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في
الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا
فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم}..
ولعل في تحذير الله نبيه أن يستجيب لأهواء الضالين أبلغ الوعيد لمن هو دونه
ممن آتاه الله علما فانصاع لأهواء من ضل عن السبيل:
{ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك
خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذاً لأذقناك ضعف
الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا}..
إن الحياة بحار متلاطمة وأمواج عاتية، والناس فيها في عنت وشدة ليس لهم قرار
ولا استكانة إلا إذا تمكنوا من جزيرة آمنة واسعة فيها العيش الرغيد، هذه
الجزيرة هي جزيرة الإيمان..
فيا أيها المنقذون! مدوا أيديكم إلى الغرقى ودلوا التائهين..
ويا أيها الناس! لاتكابروا، ولا تعاندوا، وأمسكوا بأيدي منقذيكم، واسمعوا
لهم، ولا تخالفوهم، فإنهم إنما يسوقونكم بأمر الله ودينه إلى جنة الدنيا وجنة
الآخرة، فإنكم إذا صرتم في بر الأمان، وذقتم طعم الإيمان، حينها تعلمون أنهم
كانوا لكم من المحبين .*.
إن طائفة من التائهين يغرقون وإرادتهم منعقدة على إغراق الناس معهم، يطمحون
إغراق الأمة كلها فيما غرقوا فيه، قد صرفوا كل همهم لأجل ذلك، ومن حق المرء
أن يتساءل لم يفعلون ذلك؟..
أهو حقد دفين أم حسد مكين؟..
أم هم أتباع إبليس اللعين: { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين}؟.
يغرقون ويجرون الناس معهم إلى الغرق، فهل يتركون ليعبثوا بمصير الأمة؟!.
كلا..
من هنا شرع الثبات على الحق والأمر بالمعروف النهي عن المنكر..
من هنا شرع قول الحق وعدم خوف لومة لائم في ذات الله..
من هنا شرع الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس..
كل ذلك لكف يد هذا الظالم الغارق الذي يريد إغراق غيره معه بغير ذنب إلا
الحقد وتقليد الشيطان الرجيم، وإنقاذ الأمة من مصير مجهول مظلم ينتظرها في
قاع البحر الكبير، حيث تتعرض لأنواع المخاوف والظلمات والوحوش التي تفتك بها،
وليس فيه إلا الهلاك والخراب والاضطهاد والاعتداء وفساد الحياة..
وصدق الله حين قال:
{ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا
عظيما}.