نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب..
فقد كانت الأرض مليئة بالظلم والظلَم، كان الناس يطعمون الذل ويشربون من كأس
المهانة كل ساعة، انمحت آثار الحنيفية، وخفتت أنوار الرسالة في كل الأرض..
ورحمة بالعباد أرسل الله رسولا من عنده، يمحو به الظلام، ويعيد الناس إلى
العدل، ويغرس فيهم الكرامة، فانطلق نور الله من مكة، حيث البيت المعظم الذي
بناه إبراهيم عليه السلام، أب الحنيفية والداعي إليها..
انطلق النور فغضب أهل الظلام.. انطلق صوت العدل فسخط صوت الظلم..
ولما كان الباطل ذا شوكة ترصد للحق فسام أهله سوء العذاب ردحا من الزمن، يريد
أن يسكته، ويطمس نوره، لكن الله أراد لذلك النور أن يظهر ويتم، ولو كره أهل
الظلمات، فمن ذا يقدر على أن يمنع ما أراده الله تعالى؟:
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره
الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو
كره المشركون}..
في بداية الأمر كان أهل النور والحق غرباء ضعفاء، لكن لما كان الله معهم هو
وليهم ونصيرهم صارت غربتهم إلى زوال، وتبدل ضعفهم قوة وثباتا، فصارت لهم من
القوة والمنعة ما يقدرون به على الوقوف أمام أهل الظلم والكفر، وجها لوجه،
ندا لند، بعزة وكرامة، كانوا قلة لكن:
{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}..
التقى المؤمنون والكافرون في معركة فاصلة في تاريخ الإسلام بل في تاريخ
البشرية، لذا سماها الله تعالى {يوم الفرقان}..
فإنها فرقت بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، وجعلت لمن آمن بالله هيبة
ومنعة، وحجزت الطغاة عن استذلال الناس، وكانت إيذانا بزوال الظلم والظلمات..
معركة بدر كانت متواضعة في أحداثها وعتادها وأفرادها وزمانها ومكانها،
المسلمون ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا وشيء قليل من الإبل والخيل، والمشركون ألف
رجل معهم شيء كثير من الإبل والخيل، لم تكن فيها الدبابات والطائرات
والصواريخ، لكنها كانت في ذاتها ونتائجها بالغة الأهمية، فالبشرية تعيش إلى
اليوم في ظلال نتائج معركة بدر الكبرى..
فقد انتصر المسلمون على الكافرين، وظهر العدل والحق، وذل الشرك والظلم، فكل
خير أصاب البشرية من بعد ذلك وإلى اليوم فإنما هو حسنة من حسنات معركة بدر،
فماذا لو أن الكفر انتصر في تلك المعركة ؟..
إذاً لبقي الناس في الذل والمهانة والظلم، يتجرعون مرارتها ولايملكون ردها،
كان الإنسان في ظل حكم الجاهلية مسلوب الكرامة، مسلوب العرض والمال والنفس،
يعيش حياة يحكمها قانون الغابة: " القوي يأكل الضعيف"، وتلك الحالة لايدركها
إلا من ذاقها، والبشرية اليوم تعيش طرفا منها حين غاب عنها نور الإسلام..
وقبل معركة بدر كانت البشرية تصلى بالبؤس على يد أفراد تؤمن بمصالحها الشخصية
وتدوس على مصالح شعوبها، فجاء الإسلام لتحرير الإنسان من هذا الوهم والظلم،
ولذا قال ربعي بن عامر قولته المشهورة مخاطبا رستم:
" إن الله ابتعثنا لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن
جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"..
كانت معركة بدر فيصلا في التاريخ، فهزيمة المسلمين تعني بقاء الظلمات وسيادة
شريعة الغاب، لذا قال رسول الله : (اللهم إن تهلك هذه العصابة لاتعبد في
الأرض)، حكى عمر بن الخطاب قال:
" لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة
وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه:
(اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من
أهل الإسلام لاتعبد في الأرض)..
فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه
أبوبكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: " يانبي الله
كفاك مناشدتك ربك فإن الله سينجز لك ما وعد، فأنزل الله : { إذ تستغيثون ربكم
فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين}، فامده الله بالملائكة" رواه
مسلم ..
انتصر المسلمون فأطلقوا رسالة واضحة إلى كل طاغية مستبد يزاحم الناس في
أقواتهم، ويدوس على كرامتهم:
أن شمسه جبروته إلى زوال، وأن مراتع طغيانه إلى تبدد..
وهذا ما كان، فقد ارتفعت معنويات المسلمين، وصاروا أعزة، وأقبل الناس على هذا
الدين فدخل فيه من دخل، وما زالت الأيام تمضي حتى عم النور المبين، وضمر
الاستبداد والاستعباد، والفضل يعود بعد الله تعالى إلى أهل بدر رضي الله
عنهم:
فهم أولوا الخير في كل خير أصاب البشرية..
فهم السابقون حين تأخر غيرهم..
وهم الذين بذلوا حين بخل غيرهم..
وهم الذين آمنوا حين كفر غيرهم..
وهم الذين جاهدوا حين تردد غيرهم..
ولذا فإن الله اطلع عليهم فقال: ( اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم) رواه مسلم
فلا يدخل النار أحد شهد بدرا..
في معركة بدر تجلت آيات الله ، وتتابعت البشائر:
- قتل أبو جهل فرعون هذه الأمة، قتله غلامان صغيران، والملائكة في صفوف
المسلمين تقاتل معهم، قال تعالى: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا
الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا
منهم كل بنان}.. وفي صحيح البخاري: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: " ما تعدون أهل بدر فيكم؟، قال: أفضل المسلمين، قال: وكذلك من شهد بدرا
من الملائكة"..
- في هذه المعركة الخالدة ظهر استعلاء الإيمان على المصالح الشخصية، فهاهم
الأنصار يعلنون أن التزامهم بالعقيدة لاتحده تلك العهود التي قطعوها في بيعة
العقبة الثانية، والتي كانت تتضمن منعه مما يمنعون أنفسهم في المدينة لا
خارجها، بل يظهرون الطاعة التامة دون قيد أو شرط، قال سعد بن معاذ:
" آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك عهودنا ومواثيقنا
على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك
بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره
أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله أن يريك
منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله "، البداية والنهاية..
- وفي معركة بدر تجلت ولاية المؤمنين ومعاداة الكافرين، فهاهم المهاجرون
يقاتلون أقرباءهم، فالابن يقاتل أباه، والأخ أخاه، فلا تمنعهم أواصر القربى
من معاداتهم في الله ، لأن الله أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم: {
لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا
آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}..
- وفي معركة بدر تجلت مكيدة الشيطان وخذلانه لاتباعه وأوليائه حين ولى مدبرا
ناكصا على عقبيه تاركا حزبه يلقى مصيره وحده، وهو الذي كان يؤزه ويحثه ويعده
ويمنيه، { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا}، قال تعالى:{وإذ زين لهم الشيطان
أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان
نكص على عقبيه وقال إني بريئ منكم إني أرى مالا ترون إني أخاف الله والله
شديد العقاب}.
معركة بدر معركة خالدة في تاريخ المسلمين، يجب عليهم أن يعتنوا بها، دراسة
وتعليما وحفظا، يجب أن يتعلمها الأطفال والنساء، فهي حادثة تفرح قلوب
المؤمنين ، وتشرح صدور المتقين، وتسلي نفوس المصلحين..
وبدل أن يصرف بعض المسلمين جهدهم إلى العناية بأخبار الكفار وتاريخ الكفار
على جهة الإعجاب والتعظيم، كان من الواجب أن يصرفوا عنايتهم إلى مثل هذه
الأخبار والأحداث التاريخية للمسلمين، التي لايفخر بها ليس المسلمون فحسب، بل
كل داع إلى الحق والعدل من عقلاء البشر..
فلا يستطيع منصف أن ينكر أثر هذه المعركة وما تلتها من المعارك في إعادة
الكرامة إلى الإنسان بعد أن كانت مهدرة، بغض النظر عن جنسه ودينه، فقد عاشت
البشرية على اختلاف ألوانها وأجنساها وأديانها تحت ظل الإسلام وهي آمنة على
نفسها ومالها وعرضها لما كان أحفاد أهل بدر حاضرين، مستمسكين بالإسلام، فلما
غابوا عن مسرح الأحداث، تولى أحفاد أبي جهل زمام الأمر، فرجعت البشرية إلى
العناء، فكثر الظلم والقتل..
ولا أدل على ذلك من الحروب العالمية، يكفي أن نذكر أن قتلى الحرب الثانية
تجاوز خمسين مليونا، وهو حدث هائل لم يمر على العالم مثله، هذا عدى الانتهاك
الحقيقي لكرامة الإنسان في قوته وعرضه، كما هو معلوم لكل مراقب إلى اليوم..
ولن يعود الأمر إلى نصابه، والحق إلى أهله، إلا إذا عاد أحفاد أهل بدر،
ليحملوا الراية من جديد، ويزيحوا أحفاد أبي جهل، ليزيحوا معهم الظلم
والعدوان، وصدق الله جل شأنه حين قال في حق نبينا الكريم:
{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}..
فهو رحمة لجميع الناس، حتى من لم يؤمن منهم.