مقدمة
في هذه الأيام استجدت فتنة خطيرة...
نتيجتها تحطيم أصول الدين وتغيير أحكامه...
هي فتنة قديمة في تاريخ الإسلام...
بدأت على يد فرقة مبتدعة هي المعتزلة...
واليوم تبدأ من جديد على يد من ينتسب إلى أهل السنة والجماعة...
وهذا محل الخطر....
تلك الفتنة هدفها الأول إلغاء فقه السلف وأقوالهم في تفسير النصوص الشرعية،
والاستقلال بفهمها، ومن ثم تعطيل أحكام أصلية وأخبار ثابتة بدعوى مواكبة
أحكام العصر، والوسطية في الأمور، واحترام الرأي الآخر وقبوله، مهما كان
!!!!!!!!!!!...........
وفي هذه الكلمات نريد أن نفصل ونبين حقيقة هذه الفتنة كيف بدأت في القديم..
هذا أولا.
ثم كيف استجدت اليوم، وذلك ثانيا.
وبعده نبين القول الحق في هذه القضية، والمخرج من هذه الفتنة..
ذلك من أهم ما ينبغي الاعتناء به.
(( كيف بدأت فتنة تبديل معاني الشريعة؟))
عندما نتكلم عن هذا الدين فإنما نتحدث
عن دين ارتضاه الله عز وجل للناس ولم يرتض لهم غيره، قال تعالى: {ورضيت لكم
الإسلام دينا }..
وزيادة على ذلك فنحن نتحدث عن جملة أمور تناسب فطر البشر ولا تعارضها،
فالبشرية محتاجة إلى هذا الدين حاجة ماسة، لكونه منزل من رب العالمين، والله
تعالى لا ينزل إلا ما فيه صلاح البشر، ولكونه يتفق مع الفطرة، واطمئنان
النفوس لا يكون إلا بمباشرة ما يتفق مع الفطرة ولا يناقضها..
وباتفاق الدين والفطرة تكون عمارة الأرض بالحق والعدل.. والله تعالى أنزل هذا
الدين وضمنه:
أولا:
جوابا عن كل مسألة تحتاج إلى جواب، فبه نطلع على ما يمكن أن نطلع عليه من
عالم الغيب.
ثانيا:
وأحكاما نحتكم إليها في عالم الشهادة.
وكل ذلك متسق مع الفطرة، ومع هذا الكون الذي نعيش فيه، فالله تعالى خلق الكون
حيا متحركا، وكذا الإنسان، فهنا مجموعة حركات متجددة تحتاج إلى توجيه وضوابط،
وقد قدر الله سبحانه أن يذعن الكون كله فلا يخرج عن تلك الضوابط، أما بنو آدم
فقد خيرهم بين الهدى أو الانحراف، فمنهم من ثبت على فطرته، ومنهم من تحول
عنها، قال تعالى:
{ ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم
والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله
فما له من مكرم }..
ولقد حققت الأجيال الأولى من البشرية الثبات على الفطرة والإذعان لله تعالى
على مدى عشرة قرون كما قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى:
{ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} ..
ثم طرأ على البشرية حالة غير سوية لما أعرضت عن هدي الله تعالى وخرجت عن
الضوابط التي سنها، فاجتالتها الشياطين وأفسدت فطرها، كما جاء تقرير ذلك في
حديث مسلم عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه
قال:
( كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين
فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم
أنزل به سلطانا) .
وبدأ الصراع بين فريقين:
الأول: الأنبياء والرسل وأتباعهم من
المصلحين، ومهمتهم المحافظة على الفطرة السوية، وتنقيتها من الشرك، وتربية
الناس على أحكامها.
الثاني: الشيطان وأتباعه، ومهمتهم إفساد الفطرة بتشريعات غريبة عن طبيعة
الفطرة يضعونها بأنفسهم، ويطلقون الإنسان مع رغباته وأهوائه بلا ضابط،
ويمدونه بأحكام متبدلة متغيرة لا تعرف الثبات.
وبيان ذلك:
أن أعداء الإنسانية ودعوات الرسل
الكرام تربصوا بمن آمن، وقعدوا بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله، يبغونها
عوجا، استعملوا القهر والكبت والترهيب والتعذيب لإطفاء نور الله تعالى، لكن
جهودهم باءت بالفشل الذريع، حيث زاد تمسك المؤمنين بدينهم وكثر عددهم، فنظروا
فإذا السبب:
هو صفاء عقيدة المؤمنين وسلامة دينهم، بحيث كان المرجع للتصحيح من كل انحراف
وخطأ..
فعرف الأعداء أنه لا يمكن النجاح في الاستحواذ على المؤمنين ما دامت عقيدتهم
صافية نقية تمدهم بالإيمان والتثبيت، فلا بد إذن من الهجوم على الدين ذاته،
وإفساد المعين الذي يتلقى منه المؤمنون دينهم وعقيدتهم وثباتهم وتوبتهم، حتى
إذا ما أراد المؤمن أن يعود ليتعلم التوبة والإيمان ويصحح ما يعتريه من زلل
لم يجد إلا دينا محرفا يأمره بالمنكر وينهاه عن المعروف، ويدعوه إلى الشرك
ويحذره من التوحيد..
كل ذلك باسم الإيمان والدين!!!..
فيضمنوا بذلك أبدا تدمير القاعدة والمرجع الأصلي للمؤمن، فغيروا خطتهم من
الحرب المعلن إلى الحرب الخفي، ومن قتل المؤمنين إلى قتل معاني الدين..
سعوا في تحريف الكتب المنزلة، فحرفوا التوراة والإنجيل، حتى لم تعد مصدر
هداية، وهلك اليهود والنصارى، صاروا متدينين بلا دين صحيح، يقرؤون التوراة
والإنجيل على أنهما من عند الله، ومع التحريف لم يعودا كما أنزل من عند الله،
لكنهم يتعبدون بهما، ويحسبونهم أنهم على شيء..
وهكذا نجح أعداء الملة في أن يزينوا لأتباع الديانتين أنهم على دين ارتضاه
الله تعالى، فضمنوا بذلك التدمير الأبدي للديانتين..
فمهما أراد النصراني أو اليهودي أن يتوب أو يصحح فليس أمامه إلا الدين
المحرف، فيبقى كما هو، ينتقل من خطأ إلى خطأ، فليس أمامه طريق مستقيم، ولا
مصدر يهديه إلى الحق.
ثم أرسل الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم يحمل رسالة إلى البشرية كلها،
يخالف أهواء الذين لا يعلمون، ويقيم الحق والعدل في الأرض، فتحرك الشيطان
وجنده ليمارسوا ذات الطرق في حرب هذا الدين القويم..
فجربوا القوة والقتل والقهر والأذى، فلم يفد شيئا.. فأرادوا تحريف الدين
فامتنع عليهم..
فأما القرآن فقد عجزوا عن أن يأتوا بمثله، أو أن يزيدوا فيه أو ينقصوا،
فاتجهوا إلى السنة، فوجدوا طريقا ظنوا في بداية الأمر أنه الطريق لتحطيمه
وتحريفه، فوضعوا الأحاديث المكذوبة، وأكثروا منها، حتى إن أحد الزنادقة
الوضاعين وضع ما يقارب أربعين ألف حديث..
هنا تصدى علماء السنة لهذا الهجوم على الشرعة المحمدية فوضعوا القواعد
المتينة للتمييز بين الصحيح والضعيف من الأحاديث، فنخلوا المتون والأسانيد،
وتميز الحق من الباطل، فسد الباب أمام المحرفين، فتحقق وعد الله تعالى بحفظ
الذكر الذي أنزله:
{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
ولما امتنع عليهم تحريف القرآن والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوحى
إليهم الشيطان بحيلة أخرى، هو التبديل، فعادوا على الوحي يحاولون تبديله، حتى
لا يجد المصلحون مرجعا يصححون عليه الفساد الطارئ على البشرية..
لجؤوا إلى تبديل المعاني الشرعية والقيم، فجعلوا السنة بدعة، والبدعة سنة،
والمعروف منكرا، والمنكر معروفا، والتوحيد تخلفا، والشرك تقدما، والفضيلة
رذيلة، والرذيلة فضيلة، وهكذا..
ونجحوا إلى حد كبير فصار المسلمون يقرأون كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم على غير مراد الله إلا من رحم الله، وتواصى أعداء البشرية على هذا
التبديل، وكانت الأداة الكبرى لهذا التبديل: المنهج العقلي.
((((المنهج العقلي وأثره في الأصول
والفروع)))))
لقد أثر المنهج العقلي الذي دخل على
الأمة الإسلامية بعد ترجمة كتب اليونان بأمر المأمون أثرا بالغ السوء في أصول
الإسلام وفروعه، ما يزال المصلحون يعانون منه، وكان فحوى المنهج العقلي:
"أن العقل له حق تعطيل النص بجميع أفراده بحكم المصلحة"..
وكان من آثار تحكيم العقل على النص تعطيل دلالة النصوص الشرعية، وإطلاق القول
بأنها لا تفيد العلم، أو أنها ظنية، وبذلك قدم العقل وعطل النقل.
وهذا هو التغيير والتبديل..
فمن الآثار السيئة التي ترتبت على هذه الأفكار الخطيرة:
أن تزحزح مفهوم ثبات الشريعة عند كثير من المسلمين وبعض الدارسين للفقه
الإسلامي، وانتشر هذا الأثر السيء، فأصبح النظر في المسائل الدينية مشاعا لكل
أحد، علم أو جهل، ولو كان يفتقر لآلات العلم الشرعي التي لا بد منها للنظر
والحكم، فضعف سلطان الشريعة على كثير من النفوس..
وليس ذلك بعجيب، لأنه إذا ضعف سلطانها على قلوب بعض المنتسبين للعلم فأعطوا
العقل حق الحكم على النص بإلغاء مقتضياته، فإنه لا بد من أن يترك هذا المسلك
الفاسد أثره داخل الأمة الإسلامية..
ومن هنا كان من المهم التعرف على منهج السلف في الاستدلال والتفريق بينه وبين
المناهج المبتدعة قديما وحديثا، ومن المهم أيضا معرفة منزلة الشريعة، وبيان
أن الشارع هو الله تعالى، وأن النسخ والتبديل ليس لغيره:
{يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}..
{ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل
شيء قدير}..
كما أن الحكم وإرسال الرسل ليس لسواه سبحانه.
بدأت فتنة المنهج العقلي على يد أهل الكلام، خاصة المعتزلة، الذين عاصروا
فترة ترجمة كتب الفلسفة اليونانية في عهد المأمون ت 218هـ، وأخذوا عنها..
فهذا أبو الهذيل العلاف ت232هـ أول معتزلي استفاد من كتب الفلاسفة، وقد شهد
له تلميذه النظام بذلك (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة 261)، وذكر عنه
الشهرستاني اقتباسه من الفلاسفة(الملل والنحل 1/50)..
وأما النظام تلميذه فقد حفظ كتاب أرسطا طاليس في الفلسفة والمنطق، وقد قال
تلميذه الجاحظ: "ما رأيت أعلم بالكلام من النظام"، وقد شهد النظام على نفسه
بذلك (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة 264)، وقال الشهرستاني: "طالع كثيرا من
كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة" (الملل والنحل 1/53)
لقد بدأ هذا المنهج على يد واصل بن عطاء ت 151هـ الذي زعم أن الخبر لا يكون
حجة إلا إذا سلم من التواطؤ..
ثم تبلور على يد العلاف حيث جعل الرواية للأخبار ريبة، وأن الحق في المقاييس
العقلية..
ثم أعلن النظام أن الحجة العقلية قادرة على نسخ الأخبار..
فاستقر الأمر عند المعتزلة على أن الحجة تعرف بالنظر العقلي، وأن الشريعة
قرآنا وسنة لا يصح الاحتجاج بها على إفادة العلم.
فالقول بظنية الأدلة النقلية دين أحدثه أئمة المعتزلة ولم يعرف من قبل، وبدعة
منكرة وشجرة خبيثة سقاها الفكر الفلسفي، واستظل بها أهل الأهواء وخدعوا بها
كثيرا من الناس، وظنوا أنها من الدين، وما هي من الدين.
لقد بليت الأمة بمن يعبث بدينها قديما وحديثا، ففي القديم انتشرت الفرق
الضالة داخل جسد الأمة كالخوارج والمرجئة وأهل الكلام والشيعة والصوفية فسعت
في التحريف والتبديل مع إبقاء انتسابها إلى الكتاب والسنة..
وفي العصر الحديث تعرض الدين الإسلامي لهجمة شرسة من قبل أئمة الغزو الفكري
الكامنين في بلدان الغرب.. باسم الاستشراق تارة، وباسم الاستعمار تارة أخرى.
وقد استفادوا من تجربة الفرق الضالة التي انتشرت في بلاد الإسلام، فاجتمع
جهدهم على حرب العقيدة الصحيحة النقية المنزلة من رب العالمين..
وبيان ذلك:
أن الغرب كفوا عن محاربة الدين صراحة،
إلى حد ما، وأخذوا في طرق أخرى ملتوية، وقام مفكروهم بدراسة الكتاب والسنة
وتاريخ الإسلام بغية التشويه، وجعلوا العقل والبحث العلمي رائدا لهم في
استجازة الطعن في الدين بدعوى مناقضته للعقل والعلم..
وقد نشطوا في نشر المذاهب الفكرية الإلحادية التي تنادي بفصل الدين عن
الحياة، وقد ساعد على تقبل المنهج الغربي القائم على تعبيد العقل والعلم
وتقديمه على الدين، وتقبل كل ما يروج باسم العقل والبحث العلمي المجرد، ولو
كان مناقضا للدين والفطرة، انتشار المنهج العقلي في الأمة على يد أهل الكلام،
حيث كانوا من دعاة هذا المنهج وحملته، ذلك المنهج الموروث عن الفلسفة
اليونانية.
ولم يكن هؤلاء لينفذوا بكيدهم لولا تفريط المسلمين في دينهم:
{ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا}..
فحقت عليهم سنة الله الجارية:
{ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}..
ولم تسلم القرون المفضلة الأولى إلا لثباتها على الدين والعقيدة كما أنزلت
دون تبديل، أما الأجيال المتأخرة فقد سقطت في الفتنة لما كثر فيها الخبث وفرط
كثير من علمائها في إقامة الحق، فكانت الخاتمة سقوط الخلافة وإحلال أهواء
البشر محل شريعة الله.
لكن هل توقف الكيد بهذا الدين عند هذا الحد؟.
الجواب: في المقال التالي…
في المرة الماضية تحدثنا عن الهجوم التي
تعرضت لها الشريعة، إرادة تعطيل أصولها وتغيير أحكامها، على يد المعتزلة
الذين قدموا العقل على الشرع، ثم ألمحنا إلى طريقة المستعمر في حرب الشريعة
باسم المنهج والبحث العلمي، وتوقفنا عند سؤال طرحناه فقلنا:
لكن هل توقف الكيد بهذا الدين عند هذا
الحد؟.
واليوم نتابع حديثنا، لنبين الطريقة
المستحدثة التي استخدمت لتعطيل أصول الشريعة وتغيير أحكامها، وهي وإن كانت
مستحدثة إلا أنها في حقيقتها إحياء لطريقة المعتزلة قديما في تقديم العقل،
وتعطيل النص الشرعي، فنقول جواب عن السؤال الآنف:
لم يتوقف توقف الكيد عند هذا الحد..
فقد كان الغرب يعلم أنه مهما كاد
للإسلام فلن يكون كيده بالقدر الذي يبتغيه، فالأجنبي ليس مأمونا، والمسلم لا
يرجو من الكافر خيرا، فطبعه الحذر من أفكاره، والأصل فيه عدم قبول ما يأتي
منه، خاصة إذا كان شيئا يتعلق بدينه، فهل يقبل مسلم من كافر أن يحدد له قيمه
الدينية، أو أن يصحح له شيئا في دينه، أو يطعن في دينه صراحة أو تلميحا؟.
هنا كان لا بد من صنيعة يصنعها من أبناء المسلمين يحملون فكر الغرب وتراثه
وأمجاده، يعيش بدنه في الشرق وروحه وعقله في الغرب..
فابتدأت البعثات الدراسية، وذهب أبناء المسلمين إلى الغرب لتلقي العلم والفكر
معا..
وهناك أعاد الغرب تشكيل عقول هؤلاء الشباب، لقد كانت الظروف مواتية، فالغرب
يعيش قمة حضارة مادية وعلمية واقتصادية حقيقية، وتنظيم رائع لا مثيل له في
بلاد المسلمين، المتخلفة في كل ذلك، وهذا بحد ذاته سبب لهذه الفئة انبهارا
كبيرا بالغرب، مما سهل عليهم احتواء هذه العقول وتوجيهها التوجيه اللازم
المأمول..
فالعقل عقل ناشيء غر لم يلم بعد بحقيقة الأمور، وثقافته بالعلوم الشرعية
ضئيلة إن لم تكن منعدمة، وذلك الأستاذ الغربي المجند لفتنة هؤلاء الفتية
يتعامل بأحسن الأساليب والأخلاق والكرم..
وانطلت الحيلة، وصنع هؤلاء الفتية على أيديهم، صنعا يحقق لهم أهدافا كثيرا
عجزوا عن تحقيقها بالوسائل السابقة، فغرسوا فيهم حب الغرب وتعظيم حضارة الغرب
وفكره، وأنه لا يتعارض مع الإسلام، وإنما هو من باب تنوع الحضارات
والثقافات..
فرجعت هذه الفئة إلى بلدانها وهي متشربة ومتشبعة بتلك الأفكار، وأساسها:
أن الغرب عظيم، وأن تقليده هو الطريق للتقدم، تقليده في كل شيء..
وأنه يجب أن ينظر إليه نظرة مختلفة، تختلف عن النظرة السابقة، نظرة المسلم
إلى الكافر، نظرة العداوة بين المؤمنين والكافرين، فلا بد من إلغاء مبدأ
الولاء والبراء، فلا مكان لمثل هذه المقولة في هذا العصر، ونادوا بالحوار بين
الأديان: اليهودية والنصرانية والإسلام، والتسالم معها، والتعايش معها،
وقبولها على أنها أديان حقة صحيحة، لا فضل لبعضها على الآخر..
وبدأ هذا الفريق المصنوع بأيدي الغرب يدعو إلى مذاهب الغرب، لكن محاولاته
باءت بالفشل..
حيث تنبه المسلمون إلى حقيقة هذه الدعوة، ورأوا أن الغرب نفسه جاء للترويج عن
مبادئه لكن بألسنة أبناء المسلمين، وهم وإن كانوا قد خدعوا حينا بتلك
الأفكار، إلا أنه مع مرور الزمن ظهروا على حقيقة الأمر، وأن هذه الفئة ما هي
إلا مروجة لمباديء الكفر والتبعية الغربية..
فنبذوهم ونظروا إليهم بعين الريبة والحذر، كما نظروا من قبل إلى الغرب نفسه
في دسائسه وأفكاره، وبدأت بضاعتهم تبور وسوقهم يكسد، وبدأت الجماهير المسلمة
تقبل على الإسلام وتلوذ به..
وفي هذه الفترة بدأت الصحوة الإسلامية، وكثر الدعاة إليها، وانتشروا في كل
بلاد المسلمين، وأقبل الناس عليهم حين لمسوا صدقهم، وتحققوا من سلامتهم من
التبعية للغرب الذي صار مكروها منبوذا ليس لضلال أفكاره ومبادئه فحسب، بل
لجبروته وطغيانه، فقد شاهد المسلمون تدميره لبلادهم، وتسلطه على خيراتها،
ومنعها من التقدم والازدهار.
ازدهرت الصحوة وكثر أتباعها، ومن لم، فلا أقل من التعاطف معها، وبدأت الخسارة
تحيق بالفئة المستغربة المصنوعة بأيدي الغرب، وبدأ الناس ينفضون عنهم ويقبلون
على من يقول:
قال الله، قال رسوله، قال الصحابة، قال السلف والأئمة..
وأعرضوا عن الذي يقول:
قال جان جاك رسو، قال بول سارتر، قال فرويد، قال دوركايم، دارون..
حيث لم يجدوا عندهم إلا الانهزامية وسوق الأمة إلى العبودية المقيتة
لأعدائها.
وبعد أن سحب البساط من تحت أقدام الفئة المستغربة المصنوعة بأيدي الغرب،
وصارت في أيدي دعاة الإسلام والدين الصحيح، وجد المستغربون أنفسهم بلا مأوى،
مشردين، منبوذين، فجنحوا إلى خطوة ماكرة..
فأغرقوا الأمة في الشهوات، وبثوا في القنوات كل رذيلة، استخدموا سلاح الجنس
لجر الناس إلى مبادئهم التي لا تكره الرذيلة وتمقت الفضيلة، فانتشرت
الفضائيات وزادت الموضوعات التي تخاطب الغرائز بقوة..
لكن ومع ذلك ساءهم تنامي الشعور الإسلامي وتصاعد التمسك بالقيم الإسلامية،
هنا بدأوا يراجعون خططهم، ويضعوا أيديهم على أسباب هذا الانحسار والتراجع
والخسارة التي حاقت بهم، فنظروا وإذا بالجماهير المسلمة تحب الإسلام، مهما
بعدت عن تعاليمه إلا أنها لا تتردد في التوبة والإقبال من جديد متى ما خوطبت
بخطاب الموعظة والآية والحديث وأقوال سلف الأمة..
لقد ثبت لهم أن التدين كامن في قلوب الجماهير المسلمة، وأن غبار المعاصي
والخطايا لا يمكن أن يمحو تدينهم وإيمانهم وحبهم لدينهم، فوضعوا أيديهم على
الخيط الذي يمكرون به من جديد..
فإذا كان الخطاب الديني هو الرائج والمقبول عند جماهير المسلمين فلم لا يكون
خطابهم ديني كذلك؟،
لم لا ينادون إلى مبادئهم من خلال نصوص الإسلام، ويحتجون عليها بالكتاب
والسنة؟.
ساعدهم على هذه الخطوة الخبيثة وجود طوائف وفرق إسلامية ومنتسبة للإسلام
استخدمت نفس الأسلوب من قديم، كالخوارج والمعتزلة والمرجئة والشيعة.
لقد تركزت الخطة الجديد لحرب الدين
الإسلامي على نقطتين:
الأولى: الترويج من جديد لأفكار الفرق
المبتدعة القديمة في الإسلام، والتي عملت على تبديل معاني الشريعة، مع إبقاء
الانتساب إليها، كالقول بوجوب تقديم العقل على النقل إذا تعارضا.
الثانية: هدم فقه السلف وإلغاءه بالكلية، والدعوة إلى الاستقلالية في فهم
نصوص الكتاب والسنة، بل وإلغاء أقوال العلماء كافة، والزعم بأن البحث والفتيا
في مسائل الدين حق مشروع للجميع، بغض النظر عن المؤهلات!!!!!.
ومن هاتين النقطتين بدأت هذه الفئة ممارسة دورها في فتنة الجماهير المسلمة من
جديد، فالآية والنص النبوي صار يفسر تفسيرا آخر، غير التفسير الذي جاء عن
السلف: من صحابة وتابعين ومن تبعهم، بدعوى مواكبة روح العصر..
وفي هذا أخذوا يعتمدون إما على أقوال سابقة شاذة موافقة لأهوائهم، فإن لم
يجدوا اجتهدوا بعقولهم في تفسير النصوص وفق مرادهم وأهدافهم، بما يتلاءم مع
الأهداف التغريبية، وهكذا فعلوا مع كل نص يصطدم مع أهدافهم في تغريب المجتمع
وإفساده، بدأ بنصوص وجوب الحكم بما أنزل الله إلى وجوب الحجاب ومنع الاختلاط
ووجوب الولاء والبراء، وهكذا.
وفي سبيل ذلك طعنوا وذموا كل من يرجع إلى فقه السلف في تفسير النصوص الشرعية
بوصفه أنه:
ظلامي، جامد على النص، رجعي، متخلف.. إلخ..
ومدح الأسلوب الجديد في تفسير النصوص بأنه تقدمي، حضاري، تنويري، متسامح،
معتدل، وأن العصر يتطلب تفسير النصوص تفسيرا خاصا جديدا يتلاءم مع الظروف
الحادثة.
ونبشوا في معتقدات الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة من رافضة وجهمية
ومعتزلة، وأخرجوها للناس في صورة العقيدة الصحيحة النقية المتسامحة، وصوروا
العقيدة السلفية بالمتشددة المتنطعة المتطرفة..
وأحيوا رموز البدع وطعنوا في رموز السنة، ابتداء بالإمام أحمد بن حنبل رحمه
الله، مرورا بابن تيمية وابن القيم، وانتهاء بالإمام محمد بن عبد الوهاب
وسائر علماء المنتمين إلى المنهج السلفي، لعلمهم أن مجرد إسقاط تلك الرموز
والأعلام إسقاط للمذهب من أصله.
كذلك فتشوا في الكتب بغية الوصول إلى آثار تدعم هدفهم في تبديل معاني
الشريعة، ولم يعجزهم أن يجدوا شيئا من ذلك، بل أشياء، ومع أنها لم تكن دليلا
يصلح الاحتجاج به، إلا أنهم رأوا فيها الحجة، مما دل على جهلهم المطبق بالشرع،
مع كونهم قد جعلوا من أنفسهم مفسرين شارحين له.
فمن ذلك أنهم استدلوا بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في منعه إقامة حد قطع
يد السارق عام الرمادة على جواز تعطيل العمل بالنص حين الحاجة.. هكذا زعموا،
ولا ريب أن هذا منتهى الجهل.
فعمر رضي الله عنه لم يعطل العمل بالنص، بل منع إقامة حد من الحدود، لفترة
معينة، لضرورة..
وفرق بين تعطيل النص، وتعطيل الحد الذي هو حكم، فالنص أعم من الحكم، فالنص
يشمل الأخبار، وهي لا تعطل أبدا، إذ تعطيلها تكذيب لله تعالى، وهو كفر..
والنص يشمل كذلك الأحكام الظاهرة والباطنة..
والأحكام الباطنة، وهي التي تتعلق بالقلوب، كالولاء والبراء، لا تعطل أبدا،
إذ لا سبيل للبشر في التسلط عليها..
والأحكام الظاهرة والتي تتعلق بالجوارح هي التي قد تعطل، لكن بشرط أن يكون
التعطيل لحاجة شرعية، كتعطيل عمر لحد القطع بسبب جوع الناس، فما سرق في ذلك
الوقت إلا من خاف الموت جوعا، وتلك ضرورة شرعية..
ثم كذلك بشرط ألا يكون التعطيل مستديما، بل بقدر الحاجة، وهكذا لما انتهت
المجاعة رجع الحكم كما كان (1)
فهل الذين يستدلون بفعل عمر في تعطيل
الحد يقصدون هذا؟.
الجواب: لا، إنهم يقصدون بمثل هذا
الاستدلال، تعطيل النص حقيقة بشكل دائم أبدي، إذا كان يناقض مبادئهم
وأهدافهم، سواء كان خبرا أو حكما باطنا أو ظاهرا.
فالخبر الذي يقول: إن المؤمنين في الجنة واليهود والنصارى في النار، هذا معطل
عندهم، ولا يمكن أن يعملوا به، ولا أن يعتقدوه، لأنه ينافي مبدأهم في
المساواة بين جميع الأديان.
ومع أن الخبر لا يعطل أبدا، وتعطيله تكذيب لله تعالى، إلا أنهم يعطلونه، ومع
ذلك يستدلون بفعل عمر رضي الله عنه بالرغم من بعد ما بينهم وبينه!!!!!!!!.
والحكم الذي يقول:
بوجوب الولاء للمؤمنين، والبراء من
الكافرين..
هذا أيضا عندهم نص معطل، مع أن هذه من النصوص المأمور تطبيقها في كل زمان
ومكان، ولا تخضع لتغير الحال، إذ هي من الأمور القلبية التي لا سلطة لأحد
عليها، لكنها مع ذلك فهي من النصوص التي يجوز تعطيلها عند هؤلاء القوم،
والدليل فعل عمر رضي الله عنه!!!!!!!!!!!..
فهذه طريقتهم في لي أعناق النصوص والمواقف والآثار، كل ذلك اجتهادا منهم
ومحاولة يائسة للظهور أمام الناس بأنهم على الإسلام، وأن تفسيراتهم للنصوص
الشرعية تفسيرات صحيحة قائمة على الاستدلال بفعل الصحابة وسلف الأمة، مع أنهم
في ذات الوقت يشنعون على من احتج بفقه السلف.
لكنهم يحتجون بهم حينما يظنون أن لهم الحق في أقوالهم، فهم كما قال الله
تعالى:
{ وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين}.
لقد استعملوا هذين الطريقين:
- ترويج أقوال الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة.
- وإلغاء تفسير السلف للنصوص الشرعية.
وسيلة لهدم الفكر السلفي، الذي يمثل أهل السنة والجماعة، وهو الفكر الذي يقف
بقوة
ووضوح أمام كل محاولة للعبث بهذا
الدين وتبديله، والسبب:
أن هذا الفكر والعقيدة قائم على:
1ـ تعظيم أقوال السلف من الصحابة
والتابعين ومن تبعهم، وعدم مخالفتهم فيما أجمعوا عليه، واتباع الجمهور منهم..
2ـ وقائم على محاربة الفرق المخالفة لهذا المنهج..
فهدم هذين الأصلين هدم لمنهج أهل السنة والجماعة، وهي الفرقة الناجية
المنصورة التي على الحق، وذلك يعني محوها وتلاشيها، لكن فاتهم أن الله تعالى
قد تكفل ببقاء هذه الفرقة إلى يوم القيامة، كما قال عليه الصلاة والسلام:
( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم
حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس) .
وكي يكون الأمر ظاهرا بينا، فإن الدين هو الذي عليه أهل السنة والجماعة،
أتباع السلف الصالح، وما عداه، فهو إما بدعة وأما كفر، فمن أراد أن يعرف
الدين الصحيح الذي نزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم فليتبع منهج أهل
السنة والجماعة..
تفصيل هذه المسألة المهمة سيكون في
المرة القادمة، إن شاء الله..
تتمــــــــة:
في المرة السابقة تابعنا الحديث عن
الهجوم الذي تتعرض لها الشريعة، وفصلنا في الطريقة التي اتبعت في ذلك، وقد
تركزت على أمرين:
الأول:
الترويج لأقوال الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة...
الثاني:
والدعوة إلى إلغاء فقه السلف وتفسيرهم للنصوص الشرعية.
لقد ذكرنا أن الذي تولى كبر ذلك الهجوم هم المستغربون، وتوقفنا عند مسألة
وجوب اتباع السلف ومنهج أهل السنة والجماعة، وأن ذلك هو الدين الصحيح، وما
عداه فبدعة ضلالة في النار..
جناية بعض المنتسبين إلى الفقه على الشريعة
وقبل أن نشرع في بيانها، نود التطرق إلى ذكر فئة أخرى منتسبة إلى الفقه ساهمت
مساهمة فعالة وخطيرة في تحقيق أهداف المستغربين في هجومهم على الشريعة، ربما
كانت فتنة هذه الفئة المنتسبة للفقه أعظم من فتنة المستغربين، حيث إنهم
منتسبون إلى الدين، ويتكلمون بلسان الشريعة، ولذا قد جاء التحذير من زلة
العالم، فالناس تحب الدين، ومن يتكلم بلسان الشريعة، وتقبل عليه، ومن هنا كان
على الفقيه أن يتقي الله تعالى، وأن يجتهد في إصابة الحق، ويحذر من تطويع
الدين لأهواء الذين لا يعلمون، قال تعالى:
{ ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون}...
لكن بعض هؤلاء أصيب بانهزامية غير مبررة أمام ما يراه من تطور الأمم الكافرة،
وساءه أن يرى تراجع المسلمين وتدهور أحوالهم، فصار همه محاولة تحسين صورة
الإسلام أمام من يعاديه، وانتشاله من كبوته، ولو كان ذلك على حساب أصول
وقواعد شرعية لا يحل لأحد أن يعبث بها، مهما كان:
فطوع كثيرا من الأحكام الشرعية..
وأباح كثيرا مما يعلم تحريمه بالضرورة..
باسم مسايرة العصر، وعدم التشدد، ومطالبة الناس بالحد الأدنى، كما يتصوره هو،
لا كما يجب أن يكون ..
فالحقيقة أن جهد هؤلاء مشابه إلى حد بعيد جهد الفئة المستغربة، وإن كانت
الأهداف مختلفة، فهؤلاء هدفهم نصرة الإسلام، لكن.. كم من مريد للخير لم
يبلغه؛ وهدف أولئك المستغربين تدمير الإسلام.
وكم فرح المستغربون بأمثال هؤلاء من المنتسبين إلى العلم، وأفسحوا لهم وسائل
الإعلام التي يمتلكونها، وعظموهم وفخموا حالهم، وصارت لهم المنابر
الإعلامية..
وافتتن الناس بهم، حتى ظنوا أنهم لو لم يكونوا على جادة وعلم كثير وإصابة
للحق لما أتيحت لهم فرصة التربع على عرش الفتوى في تلك المجالات الإعلامية،
ناسين حقيقة مذهب من يقوم على تلك الأدوات الإعلامية، وأهدافهم من تقديم هذا
النوع من المنتسبين للفقه والدين، وكيف أنه لو كان يضاد أهدافهم جملة وتفصيلا
لم يكونوا ليقدموه للجمهور ولا يرفعوا به رأسا..
على كل حال، وقعت الفتنة، فتنة محاولة تبديل الدين، ولم يكن وقوعها بدعة، بل
وقعت كما وقعت من قبل، وكل فتنة فلا بد لها من مخرج، والله تعالى قد شرع لنا
دينا، وحفظه من أيدي التحريف والتبديل، فكيف لنا أن نسلم من هذه الفتن
المحيطة بنا اليوم؟.
ثالثا:
المخرج من هذه الفتنة.
قال تعالى: { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من
رحم ربك ولذلك خلقهم }..
هذه الآية تخبر أن الخلاف بين البشر أمر قدره الله تعالى، لكن هناك من رحمهم
الله، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع هذا الخلاف، وحذر منه، وبين
المخرج، ولم يترك الناس في حيرة، فدلهم على المنهج والمذهب الصحيح، فعن
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين، وإن هذه
الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي
الجماعة، وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب
لصاحبه، وإنه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله).
ففي هذا الأثر أن الفرقة الناجية هي الجماعة، حيث قال: ( واحدة في الجنة، هي
الجماعة).
لكن نحن بحاجة إلى معرفة وصف الجماعة، الفرقة الناجية، كي نستدل عليها؛ لم
يتركنا النبي صلى الله عليه وسلم بلا جواب، بل جاء ذلك موضحا في رواية أخرى
للحديث، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
( تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من
هي يا رسول الله؟، قال: ما أنا عليه وأصحابي) .
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال:
( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا
موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله!
كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع
والطاعة، وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ،
وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
فالخلاف واقع بأمر الله تعالى الكوني، لكن سبيل النجاة واضح وذلك باتباع
الجماعة، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، كما تبين في النصوص السابقة، وإن
المعقول لينطق ويحكم بوجوب اتباع الصحابة وتقليدهم في مسائل الدين، والأخذ
بتفسيرهم وشرحهم للكتاب والسنة، فهم أولى الناس بذلك، لكونهم شهدوا التنـزيل
وعاصروا الوحي، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو راض عنهم، ولأن الله
تعالى قد رضي عنهم، كما قال:
{والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله
عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار ..}.
وقال تعالى: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في
قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا}.
فلا يكفي اتباع الكتاب والسنة، بل لا بد من اتباع فهم الصحابة للكتاب والسنة،
والعض على فقههم عض على الدين بالنواجذ، ومخالفتهم هو البدعة والضلالة، وكلها
في النار.
والمقصود باتباعهم هنا، أي فيما أجمعوا عليه، فلا تجوز مخالفتهم فيه، فهم لا
يجمعون إلا على دين صحيح وعمل متقبل، أما ما اختلفوا فيه، فيؤخذ بقول
جمهورهم، وكبارهم كالخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم للتنصيص على فضلهم،
وللأمر باتباعهم خاصة، كما مر في قوله:
( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) .
وقوله عليه السلام فيما يرويه حذيفة رضي الله عنه: (اقتدوا باللذين من بعدي:
أبي بكر وعمر) .
ثم يأتي بعد الصحابة في وجوب الاتباع التابعون، وهم الذين لقوا الصحابة، ثم
تابعوهم، أهل القرون الثلاثة المفضلة، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث
الذي يرويه عمران بن حصين رضي الله عنه:
( خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
فالشهادة لهم بالخيرية دال على فضلهم في الإيمان والعمل، ودليل على أنهم أفقه
الناس في الدين، وفقههم وفهمهم للشرع مقدم على من بعدهم، وهذا كما قلت آنفا
فيما أجمعوا عليه، ويأتي بعده في المرتبة ما كان عليه جمهورهم.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن قول الصحابي في تفسير نصوص الشرع بمنزلة الحديث
المسند، وحكمه حكم المرفوع، فإن كان يقصد مجموع الصحابة فلا ريب أنه لم يتعد
الصواب، قال ابن القيم:
"قال الحاكم أبو عبد الله في التفسير من كتاب المستدرك: [ليعلم طالب هذا
العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين: حديث مسند]،
وقال في موضع آخر من كتابه: [هو عندنا في حكم المرفوع].
وهذا، وإن كان فيه نظر، فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم
أعلم الأمة بمراد الله عز وجل من كتابه، فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من
الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول صلى الله عليه وسلم علما وعملا، وهم
العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل".. إغاثة
اللهفان 1/240
ها قد وضعنا أيدينا على المنهج الصحيح والطريق الأمثل ، واستطعنا أن تخرج من
كل الإشكالات والمآزق التي احتفت بالطريق، وكادت أن تمنع من الوصول إلى
الهدف، لولا أن الله تعالى حفظ هذا الدين ومنع عنه تحريف المبطلين، وأوضح
صراطه المستقيم، كما روى العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال:
( قد تركتكتم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) .
فهذا هو الميزان: اتباع الكتاب والسنة بفقه السلف الصالح، فهذا القيد مهم في
المسألة، وبذلك نكون قد اهتدينا إلى الدين الحق المنزل من رب العالمين،
مجتنبين الأهواء والبدع، كما اجتنبنا ملل الكفر من قبل، ولا يستتم الاعتقاد
الصحيح من دون الأخذ عن السلف والاكتفاء بما كانوا عليه، وآفة كل الفرق
المخالفة أنهم خالفوا السلف، واستقلوا بفهم الكتاب والسنة، وذلك سبب ضلالهم.
للكلام بقية أخيرة...
وبعد هذا نقول لمن زعم من هؤلاء
المستغربين أنهم على الكتاب والسنة، وأنهم يؤمنون بما ورد فيهما:
هل تقرون بوجوب الرجوع إلى الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين ومن تبعهم في
معرفة معاني وأحكام الكتاب والسنة؟..
فإن قالوا: نعم، نقر بذلك؛
نقضوا مذهبهم القائم على عصرنة الإسلام وتحويره بما يتلاءم مع الغرب، لأنهم
مهما أرادوا أن يفسروا النصوص بمثل ذلك اصطدموا بالسلف:
فإن أرادوا تعطيل الحكم بما أنزل الله اصطدموا بالسلف الذين يكفرون من عطل
وبدل شرع الله تعالى.
وإن أرادوا تعطيل الحجاب وبث الاختلاط، اصطدموا بالسلف الذين يخالفونهم في
ذلك.
وإن أرادوا إلغاء الولاء والبراء، كذلك لم يجدوا لهم من السلف سلفا.
وإن قالوا: لا، لا نقر بذلك، بل هم رجال ونحن رجال، ولسنا ملزمين بالرجوع
إليهم، بل لنا عقول كما لهم عقول، وعصرنا يختلف عن عصرهم، ولسنا ملزمين
بفقههم.
قلنا لهم: نقضتم التزامكم بالكتاب والسنة.
فإن الكتاب والسنة يأمران بالرجوع إلى فقه السلف في فهم نصوص الكتاب والسنة،
وأنتم بمثل هذا تؤكدون عدم إيمانكم بالكتاب والسنة، وأن دعواكم الإيمان بهما
إنما هو ادعاء كاذب، وتلبيس مخادع، لا يقف أمام الحقيقة، بل ينهار في أول
امتحان..
إذ كيف تزعمون ذلك، وإذا قلنا لكم الكتاب والسنة يأمران بالرجوع إليهم في فهم
نصوص الشرع؛ أعرضتم وامتنعتم من القبول؟!!!..
فما هذا بفعل من يعظم الكتاب والسنة، وأنتم إنما زعمتم الإيمان بهما لحاجة في
نفوسكم، لكن الله تعالى أبى إلا أن يبين حالكم.
فأنتم بين أمرين:
إما أن تنصاعوا للكتاب والسنة بفقه السلف، وذلك يعني أن تكفروا بما أنتم عليه
من مباديء ضالة تغريبية، وتتبرؤوا وتتوبوا منها، لكونها معارضة تامة للشرع.
وإما أن لا تنصاعوا لهما، وتعلنوا أنكم لا تؤمنون بالكتاب ولا بالسنة، وأنكم
تعتقدون أن الخير في الإعراض عن الدين، واعتناق مذاهب التغريب.
إذا فعلتم ذلك كنتم واضحين غير متناقضين من حيث الدعوى، لا من حيث الاعتقاد.
أما أن تزعموا أنكم على الكتاب والسنة، ثم لا تلتزمون نصوصه باتباع فقه
السلف، فذلك عين التلبيس والخداع والكذب، ولن تستقيم لكم كلمة بمثل هذا
التردد والريب.
رابط الموضع للفائدة
-------------------------
الهوامش :
(1) هذه النقطة
تحتاج إلى توضيح:
فعمر رضي الله عنه لم يعطل هذا الحد، إلا لعدم تحقق شروط القطع، فالحد له
شروط متى تحققت وجب، وإلا فلا، وعمر رضي الله عنه إنما أوقف الحد في حق من
سرق لعدم تحقق الشروط، فإن الذين سرقوا إنما سرقوا لسد جوعتهم، ولذا قال:
" لولا أني أظنكم تستعملونهم وتجيعونهم، حتى لو وجدوا ما حرم الله لأكلوه
لقطعتهم"..
وعليه فإن هذه الحادثة مختلفة، فاقدة للشرط، ولأجل ذا اختلف الحكم.. أما
الحكم في ذاته لم يتبدل ولم يتغير، بحيث لو استوفى شروطه وجب وقوعه..