سؤال تطرحه فئة (الليبرالية) تزعم أنه لا يملك أحد بعينه، ولا فئة بعينها،
الكلام باسم الإسلام، بل هو حق مشاع للجميع، فالكل له أن يتكلم باسم
الإسلام.. وهذا الرأي مبني على أصل عند هذه الفئة هو:
- أن النصوص الشرعية في الكتاب والسنة لا تخضع لتفسير واحد، بل لتفسيرات عدة،
أو قراءات متعددة بحسب تعبيرهم، وكل قراءة وتفسير يمثل جانبا من الحقيقة،
سواء كانت قراءة قديمة أو معاصرة، سواء كانت قراءة مختص بالعلوم الشرعية أو
غير مختص، فتفسير النصوص الشرعية ليست حكرا على فئة معينة، سواء كانت العلماء
أو من يسمون بالإسلاميين، بل هي حق للكل مسلم.
وتستدل هذه الفئة على رأيها باختلاف الفقهاء في كثير من المسائل، وتباين
أقوالهم في تفسير النصوص.
هذه الفئة تعلن اليوم أنها تقبل بالإسلام وبالشريعة مصدرا للقوانين، لكنها في
الوقت نفسه تقيد ذلك بأنها غير ملزمة بتفسير غيرها للإسلام، ولو كان هذا
الغير أهل الاختصاص بالعلم الشرعي قديما وحديثا، حتى الصحابة رضوان الله
عليهم، بل لها أن تفسر الإسلام بالصيغة والشكل التي تريد.
ومن كلام هذه الفئة نخرج بنتيجة مفادها:
أن الإسلام ليس وجها واحدا، بل أوجه، وأن الحق ليس شيئا واحدا، بل أشياء، وأن
الحقيقة المطلقة لا يملكها أحدا ولا فئة، بل هي نسبية تختلف باختلاف الأشخاص
وفهمهم للإسلام، فكل يملك جانبا من الحقيقة، ولا يملك كل الحقيقة.
- هذا قولهم ومذهبهم.. فهل هذا صحيح؟..
وهل حق الكلام باسم الإسلام مشاع للجميع، من غير شرط التخصص والتأهل؟..
وهل حقا لا أحد ولا فئة تملك الحقيقة المطلقة في مسائل الشريعة؟.
الجواب: هذا الرأي والمذهب باطل
شرعا وعقلا وتجربة، فكل هذه الأنواع من الأدلة تثبت أن ثمة فئة تملك الحقيقة
المطلقة في الدين، وتعمل وفقها، ومن خالفها فهو ليس من الحقيقة في شيء.
- فهو رأي فاسد ومتناقض عقلا، فإن قائله هو أول من ينقضه ويتناقض فيه، فإذا
كان يعتقد أنه لا أحد يملك الحقيقة، فكيف حكم بملكه هو للحقيقة وصدقه في
قوله: لا أحد يملك الحقيقة؟!!.
- ومن حيث التجربة، فإن كل إنسان يعامل غيره بوصفه يملك الحقيقة ومعرفة الحق،
ولذا تراه يزجره وينصحه ويرشده، وما فعل ذلك إلا لأنه يعتقد أنه على الحق،
وهذا الليبرالي العلماني لا يكف عن توجيه الناس وإرشادهم لمذهبه، وتحسينه
وتزيينه، فهل كان يفعل ذلك لولا أنه كان يعتقد أنه على الحق، وأن نظريته
المحدثة هي المثلى لنظام البشرية.
- أما من حيث الشرع، فنصوصه تؤكد أن الحق حكر على المسلمين، وعلى طائفة منهم
وصفها أنها تقلد الصحابة في قراءة وتفسير نصوص الشريعة، ثم التابعين، ثم
تابعيهم، الذين جاء النص بعدالتهم وخيريتهم، والأمر باتباع سنتهم وطريقتهم،
والحكم بنجاة وفلاح من سار على هديهم.
فقد دلت النصوص على أن الله تعالى هو الحق، وأن الإسلام هو الحق، وأن من عبده
وحده فهو على الحق، وأن من أشرك به، ولم يدخل في دين الإسلام فهو على الباطل،
وليس من الحق في شيء، فقال تعالى:
- {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي
الكبير}.
- {إن الدين عند الله الإسلام}.
- {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
ودلت النصوص على أناس بعينهم أنهم على الحق، أولهم الأنبياء صلوات الله
وسلامه عليهم، ثم الصحابة رضوان الله عليهم، ثم من كل من تبعهم وسار على
هديهم.
- فأما الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فقد قال تعالى في حقهم:
{أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا
بها قوما ليسوا بها بكافرين * أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا
أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين}.
- ونبينا صلى الله عليه وسلم على الحق، قال تعالى:
{يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا
فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله عليما حكيما}..
وكان يزيح الأصنام من حول الكعبة عام الفتح وهو يقول:
{جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}.
- ثم الصحابة رضوان الله عليهم هم على الحق المنزل من رب العالمين، ودليل هذا
أن الله تعالى رضي عنهم، وما كان ليرضى عنهم لولا أنهم على الحق، قال تعالى:
{لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}.
{والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله
عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز
العظيم}..
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنتهم وهديهم فقال:
(عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ}..
فلولم يكونوا على الحق في مسائل الشريعة، ويمثلون الحق ويمتثلون له لما أمر
باتباعهم، ولما حكم بنجاة من تبعهم من النار.
- ثم الفئة الأخيرة التي تمثل الحق تملك الحقيقة هي المقتدية بالصحابة رضوان
الله عليهم، قال صلى الله عليه وسلم:
(ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا
رسول الله! قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي)..
فالمتبع للصحابة رضوان الله عليهم على الحق لا شك في ذلك، بنص كلام رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وهذه الفئة موجودة في كل زمان، كما قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
(لا تزال طائفة من أمتي على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي
أمر الله).
فالفئة التي على الحق وتملك الحقيقة موجودة في زماننا وفي الزمن الآتي وإلى
قيام الساعة لن تنقطع أبدا، وهي التي تحفظ الدين وتصونه من التحريف والتبديل،
وهذه الفئة تمثل خاصة المسلمين المقتدين بالصحابة رضوان الله عليهم.
فالمسلم إذن يملك الحقيقة، ومن ملكها كان له الحق أن يتكلم
باسمها، فله إذن أن يتكلم باسم الإسلام، وأن يتكلم باسم الحق والحقيقة التي
يملكها ولا يملكها غير المسلم في مسائل الدين والتاريخ.
لكن ههنا توضيحات مهمة هي:
- أولا: أن المسلم في أصله عنده الحقيقة،
باعتبار امتثاله تعاليم الإسلام كلها، لكن الواقع أن المسلمين ليسوا كلهم
يمتثلون الإسلام، بل يختلفون، فمنهم المحسن، ومنهم المقتصد، ومنهم الظالم
لنفسه، و في هذه الحال لا ريب أن من الخطأ أن يقال:
إن جميع المسلمين في مرتبة واحدة في معرفة الحقيقة وإدراكها.
مع تفاوت امتثالهم لتعاليم الإسلام، بل هم متفاوتون في معرفة الحق والحقيقة
بحسب تدينهم وامتثالهم وإقبالهم على تعلم علوم الشريعة، فمن كان أكثر تدينا
وتعلما واتباعا للصحابة رضوان الله عليهم فهو أكثر معرفة وتحصيلا للحقيقة،
والعكس بالعكس.
- ثانيا: الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا
فيما بينهم في مسائل فأين يكون الحق في قولهم؟..
الحق في قولهم هو ما أجمعوا عليه، لأن خيار الأمة لا يجمعون على ضلالة.. فإن
لم يجمعوا فالقول قول كبارهم كالخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم، حيث أمرنا
باقتداء بهم خصوصا..
فإن لم يكن لهم رأي فالقول قول جماهيرهم وسوادهم..
فإن تساووا في الرأي حينئذ فلا بأس الأخذ بقول فريق دون فريق..
وفي كل حال الحق في تفسير النصوص الشرعية لن يخرج عن قول الصحابة إما
مجموعهم، أو خلفاؤهم، أو جمهورهم وسوادهم، أو بعضهم دون بعض..
ومن أبطل الباطل أن يطرح قولهم مع وروده وحضوره في تفسير نص من النصوص، ثم
يؤخذ بقول من بعدهم إذا كان يخالف قولهم، أما إذا كان يوافقه ولا يخالف، فهو
من باب اختلاف التنوع لا التضاد، فحين ذلك لا بأس به، ولو لم يرد عن الصحابة
ما دام لا يعارض قولهم.
- ثالثا: الكلام في هذا المقام إنما في مسائل
الشريعة، وكذا في معرفة تاريخ البشرية القديم، وكيف بدأ، وكيف سينتهي، وكذا
الكون، وعلاقة الإنسان به، وبالله تعالى، فالحقائق في هذا المجالات يملكها
المسلم عموما، والعالم يعرف تفاصيلها ودقائقها، ومجموع العلماء يصيبون الحق
أكثر من أفرادهم، ولا يدخل في هذا الكلام مسائل الدنيا والحياة، كما قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
(أنتم أعلم بأمور دنياكم) في واقعة تأبير النخل..
مع ملاحظة أن الحكم بين الناس ليست من مسائل الدنيا، بل من مسائل الدين
والشريعة، ولذا أنزل الله تعالى فيه شريعة كاملة.
- رابعا: لا حجة لهؤلاء في استدلال على دعواهم
باختلاف الفقهاء والعلماء في مسائل الشريعة، فهذا الاختلاف على نوعين:
- اختلاف يحتمله ويقبله الدليل، فبعض النصوص قد تحتمل معنيين أو أكثر،
ويكونان متساويين في القوة، أو قريبين في التساوي، فهذا الاختلاف مقبول، وهو
ضمن دائرة الحق.
- واختلاف لا يحتمله الدليل، فبعض النصوص لا تحتمل إلا معنى واحدا، فالقول
برأي آخر فيها خروج عن الحق، وهو خلاف غير مقبول ولا سائغ.
- خامسا: العلماء والدعاة والأحزاب إنما يمثلون
الإسلام إذا عملوا بالدليل الصحيح وتابعوا السلف، فمن خالف فإنه يمثل نفسه لا
الإسلام.
- سادسا: لا يلزم أن تكون الفئة الممثلة للحق
جماعة أو حزبا، بل كل مسلم يتبع الصحابة ومن تبعهم في معرفة معاني النصوص
الشريعة فهو يمثل الإسلام، فتمثيله للإسلام لم ينبع من ذاته، بل من اتباعه،
وإذا كان الأصل في عموم المسلمين توقير الصحابة ومن تبعهم، ومعرفة فضلهم
وفقههم في الدين، والأخذ عنهم، وتقديم قولهم في تفسير الدين، فهم إذن يتبعون
السلف.
- سابعا: الحق واحد لا يتعدد، لكن من الاجتهاد
ما يؤجر عليه المجتهد ولو أخطأ الحق، فله أجر، أما التفسيرات التي يراد بها
تحريف كلام الله تعالى فلا أجر عليها، بل الوزر.
وعلى ذلك فلا يجوز لأحد أن يحتج بقول عالم خالف فيه الحق الجلي برأي فاسد بين
الفساد، ولا يصح أن يجعله في دائرة الخلاف المقبول، فليس كل خلاف يحتج به،
فإن من أنواع الخلاف ما هو ساقط من أصله، وبذلك يبطل الاستدلال على الدعوى
باختلاف الفقهاء، فاختلافهم لا يدل على تعدد الحق ونسبية الحقيقة، بل ما كان
ضمن دائرة النص فهو مقبول، وهو من الحق، وما خرج عن الدائرة فهو مرفوض، وهو
خارج عن الحقيقة، وأما تعدد أوجه التفسير فهو اختلاف تنوع لا يضيع الحق ولا
يلغيه، وإذا حصل تضاد في التفسير فقول هو الحق وما ضاده هو الباطل.
وبعد هذا البيان، فالقول بأنه لا يملك
أحد حق الكلام باسم الإسلام يتضمن محظورات، منها:
- أولا: هو رد لنصوص ثابتة قطعية من القرآن
والسنة فيها إثبات أن فئة هي منصورة وناجية تملك الحق، ومن ثم هي التي تمثل
الإسلام الصحيح، وتملك حق الكلام باسم الإسلام، وغيرها من الفئات الإسلامية
لها الحق باسم الإسلام فيما أصابت فيه، أما ما أخطأت فيه فليس لها الحق أن
تتكلم فيه باسم الإسلام، والمقياس في معرفة الصواب من الخطأ، والمخطيء من
المصيب، هم الصحابة رضوان الله عليهم.
- ثانيا: قولهم هذا تضييع لمعالم الإسلام
وأصوله، وهذا أخطر ما يكون، فإذا كان الجميع يملك الحق والحقيقة في الدين،
وليس الكلام باسم الإسلام حصرا على أحد أو فئة، فكيف نضمن ألا يأتي أحد
بتفسير للإسلام يلغي به أصوله وأركانه: كالصلاة، أو الزكاة، أو الحج، أو
الزكاة، أو الحجاب، أو الجهاد، الحكم بالشريعة، أو علو الإسلام وبطلان غيره
من الأديان..
مدعيا أنه يقرأ النصوص الشريعة بهذا المفهوم، وأن له الحق أن يقرأ كما يشاء،
وأن يكون تفسير خاص للإسلام وليس ملزما بقراءة أحد أو تفسير أحد، مهما علا
شأنه في الإسلام؟..
فهل تصح قراءة وتفسير للنص الشرعي تعطله وتبطل دلالته كلية من أصله؟. وهل تصح
قراءة وتفسير للنص يبطل أصل الإسلام ويطمس هويته ومعالمه الرئيسة؟.
هذا هو المحذور الأكبر من هذه الدعوى، وقد وقع باسم الإسلام، وتحت دعوى أن
الإسلام له قراءات متعددة، وأوجه للتأويلات، حتى صار دينا طوع الأيدي يشكل
وفق الرأي والهوى، باسم العصرنة، وضرورة العصر، ومواكبة العصر، والتقدم
واتقاء الرجعية.
إن هؤلاء لا يقبلون بوجه أن يأتي من يفسر كلامهم بغير الوجه الذي أراده، ولا
يسمحون لكائن أن يجعل لكلامهم أوجها متعددة المعنى بعضها يناقض بعض، لكن في
كلام الله تعالى فالأمر عندهم مباح جائز، بل وضرورة وواجب شرعي، يحرفون الكلم
عن مواضعه، ويبدلون كلام الله، وكأن الله تعالى لم يبين ولم يفصل ما أراده،
حتى يكون الناس في حيص بيص، لا يعرفون المراد الحقيقي من كلامه، كلا، بل كلام
الله تعالى بين واضح مفصل، والحق واحد، كما قال تعالى:
- {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير}.
- {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}.
- {أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا}.
فالحق فيه ظاهر وواضح، والتأويل والتفسير الخاطيء له هو الذي يعارض أصوله،
ويطمس معالمه، ويغير أحكامه، وإذا كان الله تعالى وصف الذين يتبعون المتشابه
من الآيات ابتغاء تأويله بأنهم يبتغون الفتنة، وأن في قلوبهم مرض، فكيف بمن
جنح زيادة على ذلك إلى المحكمات فأراد تأويلها؟!.