سن الله سبحانه وتعالى سننا كونية وسننا دينية، وربط بينهما برابط، وجعل
الانسان هو ذلك الرابط بين السنن الكونية والدينية.
فمثلا: طلوع الشمس من المشرق وسيرها واستواؤها في كبد السماء، ثم سقوطها
ناحية المغرب سنة كونية، ارتبطت هذه السنة بسنة شرعية وهي الصلاة:
-
فطلوع الفجر علامة على صلاة الفجر.
-
واستواء الشمس علامة على صلاة الظهر.
-
وسقوطها علامة على الصلاة العصر.
-
وغروبها على صلاة المغرب.
-
وغياب آخر ضوءها الباقي علامة على صلاة العشاء.
وكان الرابط بينهما هو المسلم الذي يترقب هذه الأوقات ليقيم عبادته فيها،
ومثله سير القمر وعلاقته بدخول الشهر وخروجه، وارتباط الصوم والحج والعدة
والنذر والإيمان به.
فالسنة الكونية وهي: الحوادث التي تحدث في الكون. لاتنفك عن الانسان، كما أن
السنة الدينية وهي: أوامر الله تعالى. إنما شرعت للإنسان، فالله تعالى أمر
الإنسان بأوامر، وقدّر في هذا الكون حركات وحوادث، تعمل على خدمته، كما
رأينا:
فالشمس والقمر تخدم الإنسان في مصالحه الدينية والدنيوية، والهواء المتحرك،
والماء النازل، والنبات الخارج، والحيوان الناتج، كل هذه الأشياء من خلق الله
تعالى خلقها الله لتخدم الإنسان، وينتفع بها، وتعينه على إقامة أوامر الله،
فالصلاة لابد لها من طهارة، والماء هو الطاهر والمطهر، والإنسان لابد له من
طعام حتى يستطيع القيام بالعبادة، والنبات الخارج من الأرض ولحوم الحيوان هي
قوته.
إذاً عرفنا أن هذه الثلاثة الأركان مرتبطة ببعضها ارتباطا وثيقا لاينفك عنه،
وهي : السنة الكونية، والشرعية، والإنسان.
فلو تخلفت أحدى هذه الأمور لم تتحقق عبادة الله، فلو أن أحداث الكون اختلفت
فما عدنا نرى شمسا ولاقمرا كيف نصلي ونصوم ونحج؟، سنعاني ولاشك.. ولو أن الله
لم ينزل كتبا ولم يرسل رسلا كيف نعبده؟.
غرضنا مما سبق:
أن نبين أن الانسان مرتبط بالكون وبالشرع ارتباطا لاينفك معه، فهو مطالب
بالطاعة وترك المعصية، وهذا معلوم بيّن لايخفى، أما الذي قد يخفى على بعض
الناس أن الإنسان كذلك ليس منفكا عن حوادث الكون، بل له علاقة بكل ما يحدث في
الأرض، من خير أوشر، فإذا عمل بالشرع وأطاع الله تعالى جرت السنة الكونية
بغير اختلاف ولاتبدل:
فالشمس تجري في طريقها، تطلع من الشرق، وتغرب من الغرب، فلا تتغير، والقمر
يبدأ هلالا أول الشهر، ثم يتم في وسط الشهر، ويتراخى في آخره، فلا يتغير،
والماء ينزل نافعا صيبا غدقا، ويطيب الهواء، والأرض تخرج بركاتها، ويعيش
الانسان بأمن وراحة، لايشكو كوارث ولا فياضانات ولابراكين ولازلازل ولا خسوف
أو كسوف ولارياح ولا أعاصير، لماذا؟..
لأنه عمل بطاعة الله، ولم يخالف سنة الله الشرعية، فأقام شرع الله في نفسه،
وفيما ولي، ولم يرتكب المحرمات، فسالمته سنة الكون بأمر الله تعالى.
أما من حين يخالف سنة الله الشرعية، فيفتري على الله، ويبتدع في دين الله ما
لم يشرعه، ويركب المعاصي والفجور، ويظلم ويطغى، فإنه حينئذ يفتح باب الشر على
نفسه وعلى من حوله، لأنه بذلك يعادى سنة الله الشرعية وحكمه وأمره ويخالفها،
وإذا خالف شرع الله، خالفته سنة الله الكونية، فهي من خلق الله، وهي تعبد
الله فلا ترضى أن يعصى الله فلا تعد تجري بما ينفعه، ولا تعد تسالمه، بل
تعاديه بأمرالله، فيحدث الزلزال والبركان والفيضان والإعصار والخسوف والكسوف،
وتمسك الأرض خيراتها، ويصيبها القحط، وتمسك السماء بركتها.
فهذه قاعدة مهمة:"ما يصيب الناس من كوراث يسمونها طبيعية فإنما سببه مخالفة
الناس لأوامر رب العالمين"..
يقول سبحانه:
- {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا
لعلهم يرجعون}..
- {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.
- {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}.
فما يصيب الانسان في خاصة نفسه وأهله من مصائب، فسببه التعدي على حدود الله
والتجاوز إلى المحرمات، وما يصيب الناس من مصائب عامة، فسببه مجموع معاصيهم
وتعديهم على حدود الله، لعلهم يتذكرون ويرجعون، لذلك من الخطأ الشنيع أن نربط
هذه الأحداث الكونية من خسوف وفيضانات وزلازل ونحوها بالطبيعة، ونفسرها
تفسيرا علميا محضا، ولانربطها بالمعاصي والمخالفات، وأن لا نقول للناس: لما
خالفتم أمر الله، خلف الله عليكم أمر دنياكم فقلبها وأفسدها عليكم، يقول
سبحانه:
- {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن
كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}.
إذا اتبع الناس أوامر الله، وقاموا بحدود الله، سالمتهم المياه والهواء
والأرض والحيوانات والسباع والحيات، وهذا ثابت في الصحيح أن عيسى إذا نزل في
آخر الزمان، ينشر الالإسلام، ولايقبل الجزية، فلايبقى في الأرض إلا مسلم،
وحين ينتشر الإسلام في الأرض يزول الشر، ولايبقى بين اثنين شحناء ولابغضاء،
ويلعب الصغار بالحيات والعقارب فلاتضرهم، وتخرج الأرض بركاتها، حتى يكفي
عنقود العنب والرمانة الواحدة الجماعة من الناس، ويبارك الله في اللبن حتى
تكفي القبيلة:
- (فيقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك،. فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة،
ويستظلون بقحفها، ويبارك الله في الرِسل، حتى إن اللحقة من الإبل لتكفي الفآم
من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم الفخذ
من الناس) (مسلم كتاب الفتن باب ذكر الدجال)
- ( وتقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر،
والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لاتضرهم) (مسند أحمد 2/406)
- روى أولوا التاريخ أن البهائم كانت في عهد عمر بن عبد العزيز ترعى في مرعى
واحد، لايعدي الذئب على الغنم ولا الأسد على البقر، ففي ليلة عدى ذئب على
غنم، فقال الراعي: " إنا لله، ما أرى الرجل الصالح إلا هلك"، فنظروا فإذا هو
مات في تلك الليلة.. البداية والنهاية (9/203)
- وكان سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ عرض له أسد، فقال: "
يا أبا الحارث، إنا سفينة مولى رسول الله"، فهز الأسد ذنبه، وسار معه يحرسه
حتى أوصله المعسكر ثم انصرف (سير أعلام النبلاء 3/173).
- وأنكر أحد الصالحين على أحد الخلفاء وأمره بالمعروف، فأمر به فألقي بين يدي
الأسد، فكان الأسد يشمه ويحجم عنه، فلما رفع سئل فقال: " لم يكن علي بأس، قد
كنت أفكر في سؤر السباع واختلاف العلماء فيه: هل هو طاهر أم نجس؟" البداية
والنهاية 11/185
فهؤلاء لما تنقوا وتطهروا وسالموا شرع الله ولانوا لأمر ربهم، لانت لهم هذه
السباع، وأحبتهم الكائنات من حولهم، فلم يجدوا منها أذى ولا شرا ..
ألا نحب أن نكون مثلهم؟.
إذاً هذا الكون بحوادثه، من نزول الأمطار
الطيبة، وطلوع الشمس من المشرق، وطلوع القمر من مطلعه، وسير الهواء بانتظام،
وثبات الأرض واستقرارها وإخراجها بركاتها، وغير ذلك، استقراره على هذا النحو
الجميل المنتظم المرتب مرهون بصلاح بني آدم، فإن صلحوا تنعموا بها وبنظامها
وسنتها التي جعلها الله عليها، أما إذا فسدوا وحاربوا ربهم وتعالوا
واستكبروا، فإن سنة الكون تختلف وتتغير وتضطرب..
فإذا اضطربت سنة الكون كان في ذلك شقاء بني آدم وعذابهم ، فبنو آدم لايطيقون
زلازل تنزل بأرضهم، ولابراكين تثور من جبالهم، ولا أمطار تدمر مساكنهم وتهلك
بلادهم ولاعواصف تجتاحهم، فهذه أهوال تنخلع عندها قلوب بني آدم الضعفاء فلا
يقف أمام قوة الله شيء.
وإذا كثر الشر في الأرض، حتى لايبقى من يقول: الله ، الله. أذن الله لهذه
الدنيا بالزوال، وأول مظاهر وعلامات الساعة اختلال نظام الكون فتطلع الشمس من
مغربها، من ناحية ما كانت تغرب منها، جزاء وفاقا.
فالأرض محفوظة بوجود الصالحين ، فلو خلت من صالحين فليس بينها وبين اختلاف
سنة الله الكونية واضطرابها ونزول العذاب حجاب، فليتربص العاصون خسفا أو مسخا
أو ريحا زلزالا أو فيضانا أو بركانا.
إن المؤمن التقي البصير هو الذي يرد كل مصيبة تقع عليه أو على أهله أو على
أمته الى المعاصي والذنوب، قال بعض الصالحين : " إني لأجد أثر معصيتي في خلق
دابتي وزوجتي ".
لما خسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عن
عائشة رضي الله عنها قالت:
( خسفت الشمس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المسجد يجر إزاره
فصف الناس وراءه ثم قام يصلي... وانجلت الشمس، ثم قام فخطب الناس فحمدالله
وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده.. فإذا رأيتموها
فافزعوا إلى الصلاة.
ثم قال: لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وُعِدْته، حتى لقد رأيت جهنم يحطم
بعضها بعضا، حين رأيتموني تأخرت..
يا أمة محمد! والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته.
يا أمة محمد! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا..
وقال: وأريت النار، فلم أنظر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء،
قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن ، يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو
أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط)
رواه البخاري. بتصرف
هذا حديث عظيم، فيه عبر وعظات، وتذكير
وتنبيه:
-
فقيامه عليه السلام إلى الصلاة كان على وجه الفزع والسرعة، لعلمه بشدة
الموقف، وصدق التحذير من الرب لعباده.
-
ثم خطب فذكر في خطبته أن الله يخوف بالخسوف عباده، لنعلم أمرا جديرا
بالتنويه، وهو أن هذا الخسوف ليس ظاهرة فلكية طبيعية فحسب، ولو كان كذلك لما
قال: (يخوف الله بهما عباده)، بل هو أيضا نذير إلى العباد، وتحذير لهم لترك
العناد، وترك ارتكاب الموبقات، ولذا فإن رسول الله أسرع بالصلاة وأمر بالصدقة
والاستغفار والتوبة والذكر، ليدفع العباد عن أنفسهم سخط الرب سبحانه.
-
وفي مقامه في الصلاة رأى جهنم يحطم بعضها بعضا، فإذا كانت تحطم بعضها بعضها،
فكيف ستصنع فيمن يلقى فيها؟.
-
ورآها فلم ير منظرا قط مثلها فظاعة وهولا، ورأى أكثر أهلها النساء، فياليت أن
النساء يسمعن هذا الحديث ويتأملن فيه، وياليت أن الأولياء يذكروهن به، فلو
تأملت كل امرأة قوله: ( رأيت أكثر أهلها النساء) لآبت إلى رشدها، ولكان ذلك
زاجرا لها عن العصيان من تبرج واختلاط، وكفران عشير وكثرة لعن.
-
ثم إنه لفت النظر في هذا المقام المهيب إلى ذنب عظيم من الذنوب ألا وهو الزنا،
ولابد أن هنالك علاقة بين الزنا وبين كثرة الخسوف، فما انتشر في قوم إلا
وأنذرهم بالخسوف وغيرها من الآيات.
إن ذنب الزنا شنيع للغاية، لأنه مفسدة للإنسان والمجتمع وللأمة، في الدين
والبدن والمال والعلاقات والأمن والرخاء، فما من أمة ينتشر فيها الزنا إلا
وقد كتب عليها الشقاء، وكما أن المؤمن يغضب ويتمعر وجهه حين يرى هذا الذنب
العظيم، فكذلك هذه المخلوقات العظيمة فإنها تغضب وتسخط على الأمة إذا انتشر
فيها الزنا، فينخسف القمر، وتنكسف الشمس، وتضطرب الجبال، وتتزلزل الأرض، حتى
البهائم تلعن بني آدم حين ذاك.
ثبت في صحيح البخاري أن أبا عمران رأى في الجاهلية قردا زنى بقردة فاجتمعت
عليه القرود فرجمته.
قال ابن تيمية:" ومثل ذلك قد شاهده الناس في زماننا في غير القرود، حتى في
الطيور". 11/545 الفتاوى
لن تستقيم لنا الدنيا مالم نستقم لربنا، ولن تسالمنا الكائنات من حولنا ما لم
نسالم شرع ربنا، فنحن إذا طغينا، ولم نشكر نعمة ربنا علينا، وتجرأنا على حدود
ربنا، وطلبنا لمعاصينا التأويلات والمعاذير السخيفة، فسرعان ما تنقلب هذه
النعم في حقنا نقما، وفي لمحة البصر نصبح أثرا بعد عين، وتزول هذه النعم،
وتلك المزايا، ونصير إلى الشقاء.