بعد الأحداث الأخيرة، من تفجيرات أدت إلى تدمير المباني، وقتل بعض المسلمين،
ومن لا يستحق القتل من الكفار، انقسم الناس في علاج هذه الظاهرة الخاطئة
الخطيرة إلى فريقين، بحسب انتمائهم:
- الفريق الأول:
المنتمون للتيار الإسلامي، كما يسمى، وكان لهم رأي خاص.
- الفريق الثاني:
غير المنتمين للتيار الإسلامي، من المشتغلين بالفكر والسياسة، وكان لهم رأي
آخر.
ولنبدأ بآراء الفريق الثاني، حيث شخصوا الداء فجعلوه في طريقة تناول التيارات
الإسلامية القضايا الإسلامية والعالمية، ومضمون تعليمهم ودعوتهم ومعاملتهم
المجتمع، وكان اعتراضهم على الفكر الذي يطرحه أولئك الذين يمثلون الدعوة
الإسلامية، باعتبار أنه ليس من الإسلام في شيء، بل الإسلام بريء منه، ولأجل
ذلك فإن الحل لدى هؤلاء يكمن في محاصرة وكف ومنع النشاطات الدينية التي يقوم
عليها المتدينون، أو من يسمون بالإسلاميين، وذلك بالكيفية التالية، أوردها
كما صورها أصحابها:
1-
محاصرة المناهج الإسلامية، وتغيير مفرداتها، وأفكارها وما تطرحها من عقائد،
على أساس أنها تنطوي على قضايا تتنافى مع التوجهات العالمية للسلام والاندماج
في الآخر، والتفاعل معه، وروح الإخاء العالمي، حيث إنها تقسم الناس إلى
فريقين: مؤمن، وكافر.
ثم توجب التفرقة على أساس هذا التقسيم، فتعلن إقصاء الآخر، أي غير المسلم،
ونبذه، ورفضه، وتعلن الجهاد ضده، بما تروجه وتعلمه من ثقافة الولاء والبراء،
وأن الإسلام هو الدين لا يقبل الله غيره، وأن غير المسلم كافر، لا يقبل الله
منه صرفا ولا عدلا، وأن مآله إلى جنهم.
وهذا هو الذي تسبب في حدوث مثل تلك الاعتداءات على الآمنين، حيث نظر إليهم
على أنهم أعداء الله والمؤمنين، وأن قتلهم قربى إلى الله!!..
والواجب في مثل هذه الأفكار الضيقة، الموغلة في التطرف والأحادية، وإهدار
حقوق الآخرين: أن تزول في هذا القرن المتحضر، الحادي والعشرون، في عالم يموج
بالتعدد والتنوع، فكيف يمكن العيش بفكر واحد؟.
وهل هذا إلا حكم بالعزلة عن العالم، أو المصادمة معه؟، وهل في المقدور العزلة
عن الاتصال بالقوى المهيمنة على العالم، أو مصادمتها؟.
2-
تعطيل ومنع المؤسسات الإسلامية: الدعوية، والتعليمية، والإغاثية؛ التطوعية،
التي تقدم خدماتها للمسلمين في شتى بلدان العالم، على أساس أنها تمد، حسب
ادعائهم، العناصر الجهادية، التي تقتل، وترعب، وتدمر: بالمال، حسب ادعائهم،
وتدعم الفكر الغالي.
3-
إلغاء هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أساس أنها تشوه صورة
الإسلام، وليس على قيامها دليل من الكتاب والسنة، فهي جهة متطرفة متشددة،
تغذي الإرهاب وتنميه، وتنافي السلوك الحضاري العصري، وأن المجتمع ليس بحاجة
إلى وصاية أحد في دينه.
4-
إلغاء الأعراف والتقاليد والأنظمة التي تعمل على التفريق الذكر والأنثى، وذلك
بإتاحة فرصة التعليم والعمل دون تمييز جنسي، أي دون فصل بين الجنسين، على
أساس أن هذا حل من الحلول القاضية على التطرف والتشدد، إضافة إلى أنه يتيح
العدالة والتقدم.
5-
استئصال كل أرباب الفكر الجهادي، بإنزال أقصى العقوبات بهم، وبالأخص منهم من
يمارس عملية قتل الكفار الآمنين، فلا ينفع معهم إلا القوة والضرب بيد من
حديد، على أساس أنهم وباء ومرض لا يرجى برؤه، فهم ميئوس منهم، فلا حل لهم إلا
البتر. لكن طائفة أخرى من هؤلاء ترى غير ذلك، فهي تؤمن بالحوار طريقا أمثل
لاستصلاح الأخطاء.
وبعد القضاء على الداء واستئصاله يأتي
البناء، في نظر هؤلاء، بفتح الأبواب المغلقة أمام الفئات الأخرى، والرأي
الآخر، في الإطارين: العام، والخاص:
1- في
الإطار العام: إتاحة الفرصة للآراء الأخرى: الفكرية، والسياسية. بالبروز في
الساحة، دون حجر، أو منع، أو تضييق، فإن المجتمع لا يتقدم ولا يتطور إلا في
نطاق التعددية: الفكرية، والدينية، والسياسية. حيث تلاقح الأفكار، وتمحيص
الصحيح منها والمزيف، والمجتمع الذي يقوم على الفكر الواحد يخلق أزمات داخلية
وخارجية شتى:
- فمن الداخل تحرم فئات متعددة من التعبير عن المشاعر، وتقضي على حقوقها
المشروعة في اعتقاد وقول وفعل ما تشاء، وهذا أمر خطير على الأمن الداخلي،
ويخلق أنواعا من العنصرية: الفكرية، والدينية، والسياسية. وفي هذا كله إهدار
لحقوق الإنسان وكرامته، وهذا أمر لا يمكن له أن يطول، فإن العقيدة لايمكن
انتزاعها بالحجر والتضييق.
- ومن الخارج يتيح للأعداء الأقوياء، الذين لهم مصالح وأطماع في بلاد
المسلمين، التدخل في الشؤون الخاصة، بدعوى تحرير الشعوب، وإعطاءها حقوقها
المسلوبة، كما حصل ذلك في تجارب قريبة وبعيدة، فالأولى أن نبادر نحن قبل أن
يبادر غيرنا، فنحن أحق بإصلاح بلادنا.
2-
وفي الإطار الخاص: احترام الاجتهادات الدينية الأخرى، وعدم مصادرتها ورفضها
بالكلية، ما دامت صادرة من مسلم، ولو لم يكن عالما، على أساس: أن الدين ليس
حكرا على أحد، وليس في الإسلام نظام كهنوتي كنسي طبقي، وأنه لا خلاف في
الإيمان والقبول بالنص الشرعي الثابت، سواء كان قرآنا أو سنة، بل الخلاف في
تفسير ذلك النص، فإن النص حمال أوجه، وكل إنسان له الحق أن يفسره بما يفهمه،
وليس لغيره الحق في مصادرة ذلك الفهم، مهما بدا خاطئا في نظره، ولا أن يسأله
عمن أخذ ذلك الفهم، فهذا نوع من أنواع الحرية التعددية، التي هي من صميم حقوق
الإنسان، ولا يجوز لأحد أن يرغمه على فهم آخر.
تلك أبرز حلول هذا الاتجاه، ويمثله في الغالب
أولئك الذين تشبعوا بالثقافة الغربية، أو من لهم تعاطف مع تلك الثقافة،
ويحبذونها كخيار أوحد لحل مشاكل المسلمين: الاجتماعية، والثقافية،
والاقتصادية، والعسكرية، والسياسية.
لذا فإن غالب ما يطرحونه من حلول لمشاكل مجتمعات المسلمين، هي في غالبها حلول
مستوردة من الفكر الغربي، ومطبقة في البلدان الغربية منذ قرن وزيادة، وهؤلاء
لما رأوا تقدم تلك البلدان في الناحية: الاقتصادية، والسياسية، والعمرانية،
والعسكرية.
أرجعوا تلك المكاسب إلى النمط الفكري الغربي في التقدم، واعتقدوا أن لا طريق
إلى حل مشاكل المجتمعات الإسلامية، إلا بالتعامل معها بالطريقة الغربية،
لتضمن الوصول إلى المستوى الغربي، الذي أعطى كل إنسان حقوقه، وكل فئة حقوقها،
وكل الأديان حقها، وكل جنس حقوقه، دون تمييز، أو عنصرية، حسب ادعائهم.
غير أنهم في الوقت نفسه الذي يذكرون فيه إعجابهم بالطريقة الغربية، لاينكرون
انطواءها على انحرافات خطيرة، ومعايب كبيرة، وأمراض مزمنة، لا حلول لها، في
كل ناحية من النواحي التي تقدموا فيها!!.
ومما هو جدير بالتنبيه: أن هذه الحلول المطروحة من قبل هذا التيار، ليست
وليدة تلك الأحداث الأخيرة، كلا، بل ينادون بها منذ زمن بعيد، بسبب وبدون
سبب، فهي حلولهم على الدوام، ويعملون لها كل الوقت، فهي تتخلص باختصار فيما
يلي:
1-
منع كل فكر إسلامي لا يتلاءم مع التوجهات الدولية، التي ترعاها الدول الكبرى.
2-
فهم الإسلام على أساس عصري، يتوافق مع مقتضيات العصر، ولا يختلف معها.
3-
فتح باب التعددية في كل شيء، من دون تمييز، سواء كان لأجل: دين، أو عرق، أو
جنس.
هذا ما يطرحه هذا التيار من رؤية للعلاج، فهو كما رأينا، لا يعلن مصادمة
للإسلام، بل على العكس يعلن أن ما يطرحه لا يخالف الإسلام في شيء، بل الطرح
المضاد هو المخالف للإسلام، وهو كل ما ينافي التعددية المطلقة: فكرية،
وسياسية، ودينية. وكل ما لا يتلاءم مع مقتضيات وأحكام العصر، ولأجل أنه مخالف
للإسلام، في نظرهم، فهم ينادون بمنعه واستئصاله.
الفريق الثاني، الذي يسميه الطرف الآخر
بالإسلاميين، تصدى لهذه الظاهرة بطريقين:
الطريق الأول:
أعلن استنكاره الاعتداء على النفوس الآمنة المعصومة، سواء كانت كافرة أو
مسلمة، وأصلت ذلك شرعا بالنصوص من الكتاب والسنة، بينت فيه أن هذا الفعل
مخالف لدين الإسلام: ظاهرا، وباطنا.. روحا وشريعة..
وأن الإسلام جاء في أساس دعوته: بالسماحة، والصبر، والحسنى، والرحمة،
والشفقة، والهداية.
أما التبريء فلا يكون إلا بعد قيام الحجة، فالبدء يكون بالدعوة إلى الإسلام:
بالكلمة الطيبة.
وأن الجهاد لا يكون إلا آخر الحلول، وبشروط وأحكام، مع التذكير أن المكافئة
ليست شرطا.
وأن للعصر أحكامه، فليس الجهاد مشروعا في كل وقت، وكل زمان، بل ينظر فيه إلى
قوة المسلمين وقدرتهم على مجابهة العدو.
الطريق الثاني:
لم يوافق على الحلول التي طرحها الفريق الأول
(فريق المنع، والاستئصال)، ورأى فيما قاله كثيرا من التجاوزات، والتقوّل على
الله بغير علم، وعدم اتباع الدقة في تشخيص الداء ثم علاجه:
-
فلم يوافقه على دعوة المنع والاستئصال، ورأى فيه حلا غير مجد، حتى على المدى
القريب، فالفكر لا يحارب إلا بالفكر، والعقيدة لا تزال إلا بالحجة والبرهان.
-
وخالفه في دعوى أن المناهج التعليمية الإسلامية: هي السبب في حدوث مثل تلك
الأحداث المؤسفة، بل قلبت القضية، وجعلت المناهج الإسلامية والإصلاحية هي
السياج الآمن والمانع لخروج تلك الأفكار الخاطئة، متى فعّلت ونشّطت بالقدر
المطلوب، فالخلل ليس في مضمونها، إنما من عدم استكمالها: مفرداتها لتشمل كافة
القضايا المهمة للعصر، وقصورها عن ذلك.
-
وعارضه فيما نسبه إلى المؤسسات الإغاثية الدعوية، فلها جهود مشكورة في نجدة
فقراء المسلمين بالعلم والمال، وهو أمر تشهد به حكومات الدول التي لتلك
المؤسسات نشاطات فيها.
-
واستغرب إقحام هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القضية، فهي جهة
تقوم على حماية الفضيلة ومنع المجتمع من الرذيلة، ومتى كان ذلك سببا في القتل
والتدمير؟!.
-
ثم إنه لم ير أية مناسبة ولا معنى لإقحام المرأة في مثل هذه القضية، فأين
الرابط هنا؟، وهل يصح في محكم العقول دعوى أن الفصل بين الجنسين، والتزام
المرأة بالحجاب: سبب في الغلو والتشدد؟. ثم هل كان المزج بين الجنسين حلا
لمشاكل المجتمعات الأخرى، وهل منعت عنها القتل وسفك الدماء البريئة؟.
-
وأما بالنسبة للتعددية، فكان رأي هذا الفريق أن هذه الفكرة تنطوي على حق
وباطل، فمن التعددية ما هو مشروع، وهو ما كان في حدود الأصول الشرعية، ومنها
ما هو ممنوع، وهو ما تجاوز الأصول، ففتح باب التعددية بإطلاق خطأ محض، وغلقه
خطأ محض، وخطأ التيار الداعي لهذا الأمر، أنه لم يجعل لهذا المشروع ضوابط
وشروط، بل ينادي به بدون أية ضوابط أو حدود، وهذا محل الاختلاف بين الفريقين.
-
وعن فهم الإسلام في مشهد عصري، بحيث يلائم بينه وبين أحكام العصر، فهو كمثل
سابقه، ينطوي على حق وباطل، فمن الأحكام الإسلامية ما يتغير بتغير الزمان
والمكان، ليتناسب مع العصر، فيكون رحمة للعالمين، ومنها ما لا يتغير أبدا،
ليبقى الإسلام كيانا مميزا بين كافة الأديان، فلا يتلاشى أو يذوب في الأفكار
الأخرى، مثل أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وخطأ التيار الداعي لفهم الإسلام
بما يتوافق مع العصر، أنه لم يجعل لهذا المشروع ضوابط وحدودا، بل أطلقه
إطلاقا يشعر أنهم يبتغون إسلاما يعبث به الإنسان متى شاء، دون حرمة أو حمى،
فاقدا للمعالم لا يتميز عن غيره، وهذا ما لا يقبل المسلمون، فضلا عن الإسلام،
فأكبر مشاكل هذا التيار هو إطلاق العمومات لأمور تتضمن الحسن والقبيح،
والصحيح والخطأ، وبذلك تغيب الحقيقة عن الأنظار، فمثل هذا المسلك لا يحقق
فائدة، ولا يوصل إلى إصلاح الخلل والخطأ، ولا يلم شتات المجتمع، ولا يحل
خلافه، فالواجب في كل أطروحة للإصلاح، تدعي أنها تقوم على مباديء الإسلام أن
تكون واضحة، وذلك بتفصيل كل مجمل، وتجنب التعميم.
كان ذلك هو رد العلماء والدعاة أو ما يسمى
بالتيار الإسلامي؟، على حلول الفريق الأول، المتعاطف والمحبذ للأنموذج الغربي
للإصلاح، أوردته بصورة مجملة، وتفصيله سيأتي فيما يلي:
الجواب المفصل
ماذا ينقمون على المناهج الإسلامية؟!.
طالبوا بمحاصرة وتغييره المناهج الإسلامية،
والمناهج هنا لا تقتصر على الدراسية، فهي تشملها والكتب، والمقالات،
والنشرات، والخطب، والمحاضرات، وغير ذلك مما يرونه يروج للفكر الذي يزعمون
أنه كان سببا في التفجيرات وقتل من لا يستحق القتل..
فماذا ينقمون من المناهج؟، وأين الخلل فيها، حسب نظرتهم؟..
وما الذي فيها يروج للتفجير والقتل؟!.
جوابا قالوا: إن تلك المناهج تعمل على إقصاء الآخر.
فما معنى هذا؟.. وكيف إقصاؤها الآخر؟.. ومن هو هذا الآخر؟..
فتلك الجملة تحوي كلمتين: إقصاء، وآخر.
وكل منهما له دلالة ومعنى..
فالإقصاء قصدوا به: قطع الود، والصداقة، والتعامل، والتعاون مع هذا الآخر،
ورفضه كلية.
وقصدوا بالآخر: كل من ليس بمسلم، هذا في الأصل، ويدخل تبعا: أولئك الذين
يخالفون القول الشرعي السائد بين المسلمين.
وإذا سئلوا: ما أدلتكم على أن المناهج تقصي
الآخر بالطريقة التي ذكرتم؟.
قالوا: الدليل على ذلك:
المصطلحات التي تروجها تلك المناهج،
وفيها الإقصاء التام لكل ما لا يوافقها، مثل: الكفر والإيمان، والولاء
والبراء، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فبهذه المصطلحات لا يمكن احترام الآخر، ولا يمكن التعامل معه بإيجابية، ولن
تكون العلاقة معه إلا مضطربة متوترة، تقوم على العداء التام، والرفض الكامل،
ووضعه في خانة الأعداء، والتعامل معه بقواعد الحرب تربصا، وقتلا، وإيذاء،
والحكم عليه بالكفر والضلالة والانحراف، بتخطئة عقيدته ودينه، وطريقته في
الحياة، ثم الحكم بأنه في الآخرة من أهل النار.
فذلك موضع الخلل في تلك المناهج، حيث تدعي احتكار الحقيقة دون الآخرين، وهذا
هو سبب التطرف والعنف، وليس ثمة حل إلا في إلغائها، واستبدالها بمفاهيم عصرية
أكثر إيجابية، مثل:
السلام، والصداقة، والتعاون المشترك، والليبرالية التي تعني الحرية،
والعلمانية التي تعني فصل الدين على الحياة، وعن الدولة خصوصا، والنظر إلى
الجميع بعين المساواة، دون تفريق بين دين، أو عرق أو جنس.
ومن ذلك يفهم أن غرض هؤلاء يتلخص في التالي:
1-
أن لكل إنسان الحرية الكاملة في اعتقاد ما يشاء، ولا يلزم ولا يجبر على فكر
أو عقيدة ما، وإذا اتخذ عقيدة أخرى، أو فكر آخر، فلا يعادى لأجلها، حتى
المسلم لو غيّر دينه.
2-
المساواة الكاملة في كل الحقوق بين المسلمين وغير المسلمين، تحت قانون واحد،
لا يعلو أحد على أحد، بدين أو عقيدة، أو عرق، أو جنس، حتى الإسلام هو وغيره
سواء، لا يعلو على غيره.
3-
لأجل تحقيق ما سبق فلا بد من إلغاء المصطلحات الشرعية: الكفر، والبراء،
والجهاد، والنهي عن المنكر.
ذلك قولهم، وسبب نقمتهم، وفي هذا المقام
زعموا أن كل ما يدعون إليه من مصطلحات عصرية بديلة للمصطلحات الشرعية: إنما
هي من الإسلام، والإسلام يدعو إليها، فهو يدعو إلى: السلام، والحرية، واحترام
الأديان، والاعتراف بها، وأعطى الحقوق كاملة من غير نظر إلى: دين، أو عرق، أو
جنس.
وأما الذين يقسمون الناس إلى: مؤمنين، وكافرين.
ويتعاملون مع العالم وفق عقيدة الولاء والبراء، والجهاد، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، ويدعون احتكار الحقيقة، إنما هم متطرفون، إرهابيون، خوارج،
ليسوا من الإسلام في شيء، بل الإسلام بريء من هذه الأفكار الغالية.
إذن المعركة الفكرية هنا، بين الفريقين، خرجت
عن الخلاف ضمن دائرة الإسلام، إلى الخلاف على معنى ومضمون الإسلام نفسه،
فهؤلاء المتشبعون بالثقافة العصرية، دعاة عصرنة الشريعة، يزعمون أن مخالفيهم
من الذين يسمون بالإسلاميين: لا يمثلون الإسلام في أطروحاتهم، وأفكارهم،
وأنهم يربون الناس على غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم..
وبهذا يأخذ الخلاف بين الفريقين بعدا عقائديا خطيرا، فإن صدقوا في زعمهم فقد
ضللوا وبدعوا خصومهم، وإلا رجعت عليهم.
فما جواب الفريق الثاني: العلماء والدعاة؟.
أجاب العلماء والدعاة على دعاوى أصحاب
السياسة والفكر فقالوا:
أولاً:
لقد خلط هؤلاء العصرانيون ومن وافقهم بين الحق والباطل، فقالوا أشياء في
نفسها صحيحة، ومطلب ديني وإنساني، مثل: الحرية، والمساواة، السلام، والتعاون،
والمحبة، واحترام الآخر.
لكن الباطل جاء من جهة عدم الضبط لتلك المطالب بضوابط ضرورية، بدونها تكون
ضارة غير نافعة..
وهذا موضع الخلاف بين الفريقين..
فـ(الحرية) شعار جميل، لكنه خطير بدون ضوابط خطير للغاية..
وكذا السلام، واحترام الآخر، والتعاون، والمحبة، كلها لها حدود، ويستحيل في
محكم العقول أن تطلق بدون ذلك..
ومشكلة هؤلاء أنهم يطلقون هذه الشعارات من غير ضوابط ولا حدود، وإذا ما
حاولوا الضبط أو التحديد، فعلوا ذلك من غير رجوع إلى الشريعة، وهذا يظهر من
مخالفتهم للشريعة في مسائل مجمع عليها بين المسلمين، كوجوب التحاكم إلى
الشريعة، فإنهم لا يرون وجوب ذلك، وربما رفضوه كلية.
ثانيا:
علينا هنا أن نفحص ونمحص دعوى هؤلاء العصرانيين، لأنهم المبادرون بالنقمة
والتهمة، لننظر:
هل يجوز إلغاء تلك المصطلحات الشريعة السابقة؟..
وهل هي السبب في حدوث الأخطاء من بعض المسلمين؟..
وفي هذا المقام لن نعرض أقوالهم ودعواتهم على رأي فلان أو فلان، ولن نحاكمه
إلى المذهب الفلاني القديم أو الحديث، بل نحاكمه إلى نصوص الشريعة الواضحة،
التي يفهمها العامي قبل العالم..
فلنأخذ أولاً مصطلح (الكفر)، هل هو شرعي؟..
وهل الآخذون به، والمقرون: متطرفون، خارجون؟،..
أم المنكرون له، المعرضون عنه هم الضالون المنحرفون؟.
أولا: مصطلح (الكفر) هل هو شرعي؟.
(الكفر) لغة هو التغطية، وسمي الزارع كافرا، لأنه يغطي الزرع بالتراب، قال
تعالى: {كمثل غيث أعجب الكفار نباته}، أي الزراع.
وفي الاصطلاح: هو الذي لا يشهد الشهادتين، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما
يرويه ابن عمر رضي الله عنهما: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله
إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك
عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) [صحيح البخاري
1/17]
وقد ورد هذا المصطلح كثيرا في القرآن بلغ الخمسمائة مرة، وفي صيغ متعددة:
-
مثل قوله تعالى: {ولم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، فهذا نوع..
-
وكقوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله}، وهذا نوع آخر..
-
وكقوله: {إن الذين كفروا وما توا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا
ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين}، فهذا نوع ثالث..
-
وكقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم}، فهذا نوع رابع..
-
وكقوله: {إن الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم
يصلونها وبئس القرار}، فهذا نوع خامس..
-
وكقوله: {وهم يكفرون بالرحمن}، فهذا نوع سادس..
وكقوله: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، وهذا نوع سابع..
وكقوله: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}، فهذا نوع ثامن..
وكقوله: {تدعونني لأكفر بالله}، فهذا نوع تاسع..
وكقوله: {اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون}، فهذا نوع عاشر..
فكلمة (كفر) واشتقاقاتها كلها واردة في
القرآن، وفي السنة كذا، بشكل ظاهر، لا ينكر.
فهو إذن مصطلح شرعي: قرآني، نبوي، أطلق على من لم يدن بدين الإسلام، فإلغاؤه
يستلزم حذف ومحو آيات كثيرة من القرآن، بل ويهدم الإسلام بالكلية، وهل يجرؤ
على ذلك إلا منكر جاحد؟!.
ذلك من حيث الشرع..
أما من حيث الحقيقة القدرية، فإن الله تعالى أخبر أنه خلق الناس في هذه
الدنيا فريقين، فقال تعالى: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}..
فهذا إخبار بالحقيقة الكونية الواضحة:
أن الناس مختلفون، والله تعالى لا يكذب، ونحن نرى هذا الانقسام بين البشر في
هذا العالم على النحو الذي أخبر الله به: مؤمنين، وكافرين.
فكيف يمكن العمى عن هذا الظاهر كالشمس؟..
ومن ذا الذي يصدق أنه يمكن ألا يوجد هذان الفريقان في هذا العالم؟!.
فهذا دليل على افتراق الناس، ووجود الكافرين والمؤمنين، ودليل آخر:
أن الله سبحانه أعطى الإنسان إرادة حرة، يختار ما يشاء، فقال: {وقل الحق من
ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}..
ومعلوم أن الدنيا فيها أشياء كثيرة متناقضة، فيها: الخير والشر، والنور
والظلام، والصالح والمجرم.. لا يزعم زاعم أن ما فيها واحد غير مختلف.
فإذا كان الأمر كذلك، فمن اللازم لهذا الواقع
اختلاف الناس، فكل له إرادة حرة يتخذ بها السبيل الذي يراه ويحبه، فارتفاع
الخلاف، والتوافق الكامل لا يكون إلا في حالتين:
الأولى:
أن تكون الدنيا واحدة في صورها، ليس فيها إلا طريق واحد، بدون تناقضات.. في
هذه الحال لا يملك الناس إلا أن يكون متفقين غير مختلفين، لأنه لا خيار لهم
غير ذلك.
الثانية:
أن يكون الإنسان مسلوب الإرادة مسيرا غير مخير، يسوقه غيره، يوجهه كيف أراد،
بيده أن يجعل الناس على صورة واحدة، وليس الأمر كذلك، فالإنسان له إرادة،
والذي بيده جبره، وهو الله تعالى، لا يفعل ذلك، بل ترك له أن يختار ما يشاء،
وبذلك فلا يمكن أن ارتفاع الخلاف والانقسام.
إذن، مع الإرادة الحرة، ووجود المتناقضات في الدنيا، فلا يمكن أن تكون
النتيجة إلا الاختلاف والانقسام، ولذا قال تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس
أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم، وتمت كلمة ربك
لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}.
ففي الدنيا دواعي الخير والإيمان، فمن شاء فليعمل بها، فهو حرّ في اختيارها،
وفيها دواعي الشر والكفر، فمن شاء فليعمل بها، هو حرّ في اختيارها، ثم بعد
ذلك الخلاف وانقسام الناس إلى: مؤمنين، وكافرين.. أمر لا ينكر إلا جاهل
معتوه، أو مفتر عابث!!.
فهل يمكن رفع هذا الانقسام؟.
الجواب: أن التاريخ يقول:
إن ذلك لم يحدث إلا في حالة واحدة،
لما كان الناس يعبدون الله وحده لا شريك له، وذلك منذ عهد آدم إلى نوح عليهما
السلام، كما قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين
ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه}..
فلم ينقسم الناس إلا بعد أن عبد قوم نوح غير الله تعالى، فإذا ما أراد الناس
الاتحاد فلا يمكن ذلك إلا باتحادهم على عبادة الله وحده، أما في غيرها فليس
بينهم إلا الفرقة والقتال، ولن تجدي دعاوى السلام، ووحدة الأديان، والمنظمات
الدولية والمعاهدات في رفع الانقسام والتناحر، لأنها كلها لا تدعو إلى عبادة
الله وحدة، بل العكس هي تدعو عبادة غيره.
إذا ثبت أن الناس منقسمون إلى: مؤمنين،
وكافرين.. أي الفريقين مع الله، والله معه؟.
وأيهما الذي يحبه ويرضاه ويتولاه؟. أهم المؤمنون، أم الكافرون؟.
أهم أهل الإسلام، الذين يشهدون ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أم
الذين يجعلون مع إلها آخر، ولا يشهدون للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة،
ولا يقرون له بالاتباع؟.
هذا ما سيكون جوابا تاليا، إن شاء الله.
أيهما المحبوب إلى الله: آلمؤمن، أم
الكافر؟.
المؤمنون هم أهل محبة الله ورضوانه، أما الكافرون فهم أهل بغضه وسخطه،
والأدلة ما يلي:
1-
أن الله تعالى فرق بين هذين الفريقين، فنفى نفيا جازما المساواة بينهما، فقال
سبحانه:
- {إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم*أفنجعل المسلمين كالمجرمين*ما لكم كيف
تحكمون}.
- {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون}.
- {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.
هذه النصوص واضحة الدلالة، لا تحتاج كثير شرح، أن الرضا والمحبة من الله
تعالى للمسلمين المؤمنين، وأنهم أصحاب الجنة الفائزون، ولا نظن أحدا يدعي عكس
ذلك: أن الله يحب المجرمين الفاسقين، ليجعلهم الفائزين.
فإن من المتفق عليه: أن الوصف بالفسق والإجرام غاية في الذم.
وقد سبق أن المسلم هو الذي يشهد لله بالتوحيد، وللنبي صلى الله عليه وسلم
بالرسالة، فمن لم يشهد فهو مجرم فاسق، من أصحاب النار، ومن ثم فلا يمكن أن
يكون مساويا للمسلم، بلْه أن يعلو عليه، وهذا حكم الله الشرعي، أما في حكمه
القدري فقد يعلو الكافر على المسلم، لكن ذلك لا يدل على محبة الله له.
2-
قد يقول قائل: نعم الإسلام يعلو، ولا مساواة بينه وبين غيره من الأديان، لكن
عدم المساواة لاتدل على الرفض، فكل الأديان حسنة، والإسلام أحسن منها.
والجواب:
أن الله تعالى أخبر أنه لا يقبل من عباده إلا الإسلام، فقال تعالى:
- {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
- {إن الدين عند الله الإسلام}.
والإسلام هو دين جميع الرسل، حيث جاءوا بعبادة الله وحده، كما قال تعالى:
- {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.
فكل الأديان التي لا تدين بعبادة الله وحده باطلة: يهودية، أو نصرانية، أو
مجوسية، قال تعالى:
- {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من
المشركين}.
وملة إبراهيم هو التوحيد الخالص لله تعالى، كما قال سبحانه:
- {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا}.
3-
أمر الله تعالى الناس بالإسلام، ولم يأمر بغيره، فدل على رضاه عن المسلمين
فقال:
- {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أءسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا
فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد}.
فإن أسلموا فقد اهتدوا ونجوا، وإلا فقد ضلوا وهلكوا، قال تعالى:
- {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم، وقال المسيح يا بني
إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة
ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}.
4-
أمر الله تعالى المسلمين بقتال الكافرين، ولو كانوا أهل رضاه ما أمر بذلك،
فقال تعالى:
- {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله
ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد
وهم صاغرون}.
فقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده، بعد أن أعدوا العدة
والقوة، وفتحت البلاد والممالك بجهادهم، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
وبذلك ثبت علو الإسلام وأهله، وذلة الكفر
وأهله، كما ثبت جهل من يريد إلغاء مصطلح (الكفر)، مع كونه من المصطلحات
الشرعية الباقية إلى قيام الساعة، يريد أن يجعل المسلمين كالمجرمين،
والمؤمنين كالفاسقين؟!! أليس هو بذلك يكذب الله تعالى، الذي فرق ومايز بينهما؟،
ويفتري عليه الكذب، والله تعالى يقول: - {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا
أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة
الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم
كافرون * أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء
يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون * أولئك الذين
خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون * لا جرم أنهم في الآخرة هم
الأخسرون}.
فهذا المسلك الذي يبتغي إلغاء مصطلح (الكفر)
من قاموس القرآن والشريعة، والمساواة بين الإسلام وغيره، هو نفسه مسلك وحدة
الأديان، تلك الفكرة الكفرية، المبتغية تقويض الإسلام، فإن الإسلام يقوم على
التميز عن سائر الملل والأديان، فالمساواة بينه وبينها، مساواة بين الدين
المنزل من الله، والدين الموضوع من قبل البشر، وهذا غاية الجهل، وتحريف
وتضليل عن الحقيقة، قال تعالى:
- {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}.
- {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه
يرجعون}.
من يملك الحقيقة؟!.
انتهينا من الكلام عن مصطلح (الكفر)، وبان بطلان رأي من أراد طمسه، فلا يفعل
ذلك مسلم، يعي ويفهم دينه، لأن طمس هذا المصطلح باختصار: طمس للإسلام.
هنا ننتقل لمسألة أخرى لها علاقة بما نحن فيه، وهي مسألة: من يملك الحقيقة،
وهل ثمة حقيقة مطلقة؟.
وهي مسألة يطلقها العصرانيون، المستغربون، أصحاب الفكر والسياسة، على الدوام،
فدعواهم:
أنه لا أحد يملك الحقيقة، وليست ثمة حقيقة مطلقة، بل نسبية، تتراوح من شخص
إلى آخر، فليس لأحد، ولا فئة، ولا دين أن يدعي أنه على الحق وحده، ولا أنه
يملك الحقيقة المطلقة، فيكون مخالفه على الباطل، كلا، بل كل إنسان، وكل فئة،
وكل أهل دين، هم على الحق فيما يعتقدون، ما داموا مقتنعين.
ويستدلون لرأيهم بمثال هو: الشكل المكعب. فإنسان يراه من جهة، وآخر من الجهة
المقابلة، وثالث من فوق، ورابع من تحت، فكلهم يرى جانبا من حقيقة هذا الشكل،
فكلهم على حق فيما رأوا.
وهذا المثل له نظير قديم، وهو أن جماعة من العميان صادفوا فيلا، ولم يعرفوه
من قبل، فكل وصفه بما وقعت يده عليه، فأحدهم وصف خرطومه، والثاني وصف أقدامه،
والثالث رأسه، وهكذا كل واحد أتى بجانب من الحقيقة، وصدق فيها. إذن في
زعمهم:الكل عنده جانب من الحقيقة، ولا أحد يعرف الحقيقة كاملة.
والنتيجة:
لا وجه لأن ينكر أحد على أحد، أو يخطّيء أحد أحدا، فيما ذهب إليه من قول أو
رأي. وكيف ينكر وهو الذي ما عرف من الحقيقة إلا جانبا، وخفي عليه الجانب
الآخر التي عرفها غيره.
والمقصود بالحقيقة هنا: الأمور المتعلقة بالخالق والإنسان والعالم. الخالق
وأوصافه، والإنسان وجوده، وما أمر به من الدين، والعالم بدايته ونهايته،
والغيبيات: أخبار الماضي والمستقبل.
فهذا قولهم، وعليه الملاحظات التالية:
1-
هو منسجم مع سعيهم في إلغاء مصطلح (الكفر)، فإن مع وجوده تنحصر الحقيقة في
أهل الإسلام، لأنه لا يمكن أن يكون الكافر على الحق، وهم يرفضون أن تدعي فئة
أو أهل دين أنهم يملكون الحقيقة دون غيرهم، فلا بد إذن من إلغاء مصطلح الكفر،
لتكون الحقيقة بعدها مشاعة للجميع، من غير فرق بين أحد، بسبب دين أو غيره.
2-
إذا كان قولهم بإلغاء مصطلح (الكفر) باطل معارض للقرآن، فرأيهم في الحقيقة
المطلقة والنسبية هو كذلك، فإن القرآن لا يفتأ يقسم القول إلى: حق، وباطل.
وهذا أمر معروف في القرآن، لا ينكره إلا جاحد، فإن القرآن يشير، في آيات تبلغ
المئات، إلى أن هناك من هو على الحق، يملك الحقيقة، وهناك من لا يملكها، وليس
له حظ فيها، عكس ما يدعيه العصرانيون، قال تعالى: - {ذلك بأن الله هو الحق
وأن ما يدعون من دون هو الباطل، وأن الله العلي الكبير}.
فالله تعالى هو الحق، وعبادته حق، والذين يعبدونه على الحق، وغيره من
المعبودات كلها باطلة، لا تصح عبادتها، والذين يعبدونها ليسوا على الحق. هذا
معنى الآية، وهذا ضد ما يقوله هؤلاء، فإن قولهم أن الجميع مصيب في عبادته،
سواء عبد الله، أو المسيح، أو اللات والعزى!!.
- {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}.
فهذا أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه أن ما جاء به من
الرسالة هو الحق، وأن ما عليه المشركون هو الباطل، ولما خرج المسلمون إلى
معركة بدر كانوا على الحق، وخصومهم قريش على الباطل، وفي ذلك يقول الله
تعالى: - {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة
تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق
ويبطل الباطل ولو كره المجرمون}.
فقسمة الأمر إلى: حق، وباطل. قرآنية شرعية، وهي تقابل: الإيمان، والكفر.
وهؤلاء لما نفوا الكفر نفوا الباطل، فأضافوا إلى نفي الآيات التي ورد فيها
الكفر: الآيات التي ورد فيها ذكر الباطل، فكم من الآيات نفوا ؟!!.
3-
أن الله هو الحق، كما قال: {ذلك بأن لله هو الحق}، فإن كان هو الحق، فالحق
عنده، ومن عنده، {الحق من ربك فلا تكونن من الممترين}. فهل يمكن أن يختص به
من يشاء من عباده؟
الجواب:
نعم، ذلك غير محال، وقد وقع، فلا يرتاب مؤمن وعاقل: أن الأنبياء اختصوا بالحق
من الله، ولذا كانوا رسله إلى الناس. إذن هم يعلمون الحق، ويملكون الحقيقة،
فمن تبعهم استمد من تلك الحقيقة على قدر الطاعة، ومن كذبهم فهو عار من
الحقيقة، يقول تعالى عن ملك الأنبياء للحقيقة:
- {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم}.
- { ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق}.
ويقول عن المتبعين لهم بإحسان: - {وإذا سمعوا
ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا
آمنا فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق}.
ويقول عن المكذبين لهم: {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم}.
فهذا هو كلام الله تعالى، ظاهر بيّن، لا يجادل فيه إلا جاحد، يثبت لفئة من
عباده أنهم يعلمون الحقيقة، وهم أهل الحق، فكيف يدعي هؤلاء بعد هذا: أن
الجميع على الحق، وأن الحقيقة نسبية، ولا أحد على الباطل، فيما تدين به
واعتقده؟. والأعجب من ذلك أن يدعوا أن ما يدعون إليه هو الإسلام؟!.
4-
إن الحق واحد لا يتعدد، لكن منه أصل وفرع. فالأصل لا يتسامح فيه، فلا يوافق
من اجتهد فيه فأخطأ، أما الفرع فإنه يتسامح فيه، ومن اجتهد فيه فأخطأ،
فاجتهاده مقبول، وله أجر، فهذا القسم يقال فيه: لا إنكار في مسائل الخلاف، أي
الفروع. فأصول الإسلام والإيمان لا مجال للمخالفة فيها، فهي ثابتة واضحة،
فأما تتضمنه من فروع المسائل فيمكن للناس أن يختلفوا فيها على أقوال عدة،
ويكون للجميع الاجتهاد، لكن ذلك لا يعني تعدد الحق بتعدد الأقوال، كلا، بل
الحق واحد، يصيبه الموفق الراسخ في العلم، ولهم أجران، كما قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصحاب فله أجران، فإن أخطأ فله أجر).
5-
الأمثلة التي ضربوها هي ليست في محل النزاع، وهي عليهم لا لهم.. فالشكل
المكعب له ست جهات، فهناك من يرى جهة دون غيرها، وهناك من يرى جهتين فأكثر،
وهناك من يراها كله، وغلط هؤلاء أنهم قصروا الأمر على رؤية جهة واحدة ؟!!..
فمن ينظر جهة لن يعرف من الحقيقة إلا جزءا، هذا صحيح، لكن أليس هناك من في
قدرته رؤية جميع الجهات؟، بلى، يمكن ذلك.
وهذا ما لم يذكروه، والمسائل المتعلقة بالدين يختلف الناس فيها، فمنهم من
يدرك جانبا، فيكون تصوره وحكمه قاصرا، وربما باطلا، عكس الذي يدرك جميع
الجانب، هو أوفر حظا في إصابة الحق، فالذي يدرك وجها لايصح أن يقال في حقه أن
مدرك للحقيقة، كلا، بل لا يدرك الحقيقة إلا من أحاط بكافة الجوانب، ولذا ينصح
أهل العلم بعدم التسرع في الفتيا إلا بعد التصور الكامل للمسألة، فأكثر الخطأ
يأتي من قصور التصور، وهو الوقوف على بعض الجوانب دون بعضها.
وبهذا تسقط الفكرة الثانية: أن الحقيقة ليست ملكا لأحد.
بلى هي ملك لمن آمن بالله، وأسلم وجهه لله، وهو محسن، وهم الأنبياء، ومن
تبعهم، ولا تزال طائفة على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي
أمر الله.. أخبر بذلك النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
يتبع ..