إذا آويت إلى ركن شديد.. فأنت شديد.
إذا آويت إلى ركن ضعيف.. فأنت ضعيف.
الشديد أحسن من الضعيف.. فأين هو الركن الشديد، لنأوي إليه؟.
في الدنيا أشياء واضحة، وأشياء مزخرفة..
فمن الواضحة:
ذلك القوي الشديد، الذي هو حقا كذلك، وذلك الضعيف الهزيل، الذي هو حقا كذلك.
ومن المزخرفة:
ذلك الذي يبدو قويا شديدا، وهو في حقيقته ضعيف هزيل.
والإنسان دائما ما يخطئ: يتجه يطلب الركن الشديد، فينحدر إلى ضده، فيلزمه،
ويتمسك به، مخدوعا بزخرفه، يطلب العزة عنده، وما عنده إلا الذلة.
{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون
عليهم ضدا}.
الله قوي شديد، والراكن إليه في حرز من الأمن، والعزة، والكافرون ضعفاء،
والراكن إليهم في خوف، وذلة، وقد يخيل للمرء أن لهم شدة وقوة، لكن ذلك إنما
هو كسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، وليس بماء، فهذا مثلٌ لمن يبدو قويا
شديدا، وهو في الحقيقة ضعيف هزيل.
لكن ماذا عن القوة الهائلة التي يملكها
الكافرون، أليست دليلا على قوتهم؟.
وجوابا نقول:
وماذا عن قوة الله تعالى، التي فوق قوتهم، أليست دليلا على أن قوتهم زائفة؟..
وما عساهم أن يصنعوا بقوتهم، والقوة لله جميعا؟..
وما عساهم أن يصنعوا بقوتهم، والأمر لله، يقول للشيء: كن؛ فيكون؟..
وما عساهم أن يصنعوا بقوتهم، والله من ورائهم محيط، وهو مالكهم، ومالك
قوتهم؟.
وهل يقدر العباد مهما بلغوا، ومهما صنعوا، أن ينازعوا ربهم الذي خلقهم،
وأحياهم، وأماتهم؟.
ألم يهلك الله عادا، {إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد}؟،
الذين قالوا: من أشد منا قوة، فرد الله عليهم: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم
هو أشد منهم قوة؟}.
لا جدال في هذا، فكل مؤمن يعلم أن الله هو القوي، جبار السموات والأرض..
وأمام هذه الحقيقة يتساءل المرء:
ما بال الناس يركنون إلى الضعفاء، إلى الكفار، يطلبون عندهم العزة، والمنعة،
والشدة؟.
ما بالهم يطلبون العزة عند من سيكفرون بهم، ويكونون عليهم ضدا، يذلونهم،
ويستعبدونهم؟.
ما بالهم يطلبون العزة عند من لا يخلص لهم في رأي، ولا ينصح لهم في شيء؟.
ما بالهم يطلبون العزة عند من تبينت عداوته، وكيده، وجرب الناس منه الخديعة
والخذلان؟.
هل انصرف التوفيق عن بابهم، فما لهم إلا الحظ السيء؟..
أم هل عميت بصائرهم، فما عادوا يفرقون بين صديق وعدو؟..
أم هل ضعفت أبصارهم فصاروا يظنون السراب ماء؟..
أصل البلية هو:
حب الدنيا، وتقديمها على الآخرة، هي أس كل مصيبة، هي التي تحمل الإنسان على
التلاعب بالدين، وتسخيره للهوى إن تيسر، أو الإعراض عنه إن تعسر، وحين ذاك
يسخط الله عليه، فيخذل، فلا يوفق، وتعمى بصيرته، فيرى الأمور بعكسها، وتغيب
عنه الحقيقة، فلا يراها، ولو كانت كالشمس، فيتخذ عدوه وليا ونصيرا، ويبذل له
الخضوع والطاعة، يرجو أن يكون له عزا، لكن هيهات، لن يجد منه إلا الخذلان،
والخديعة، ولن ينال إلا الذلة والهوان:
- فلو
كان صادقا، فما هو إلا مخلوق لا يملك من أمره شيئا، والأمر كله لله تعالى..
- لكن
ما هو إلا عدو حاقد، مهما أظهر النصح والإخلاص، متى ما انتهت مصالحه عند هذا،
قلّب عليه الأمور، وأراه وجها كالحا، ليس فيه إلا البغضاء والغيظ..{إن
يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو
تكفرون}.
والتاريخ يذكر عن كثير ممن ركن إلى هذه الأركان الضعيفة الهزيلة من دون الله
تعالى، كيف أنها خذلت، فندمت بعد أن فات أوان الندم.. ما بقيت هذه الأخبار في
الكتب تذكر إلا للعبرة، لكن الناس يأبون إلا تكرار التجربة..!!..
والسبب:
- إما
جهل مطبق ضارب على عقولهم، فلا يقرؤون، ولا يسألون، ولا يسمعون.
- أو
خذلان كتبه الله عليهم، جزاء ما صنعوا واقتروا من آثام وجرائم بحق
المستضعفين.
إن الإعراض عن الله تعالى والركون إلى غيره
من الأركان الهزيلة الضعيفة صفة من صفات أهل النفاق، فقد ذكر الله تعالى عنهم
ركونهم إلى الكافرين، واتخاذهم أولياء من دون المؤمنين، فقال:
- {يا
أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن
يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في
قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي
بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين}.
-
{بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون
المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا}.
اتخذوهم أولياء، وركنوا إليهم، خشية على دنياهم، وطلبا للعزة، فما نالهم إلا
الندم والذلة..
وهي كذلك صفة للكافرين، فقد ذكر تعالى عن الكافرين أنهم اتخذوا آلهة يعبدونها
من دون الله لتكون لهم عزا، ثم بين حقيقة ما سيكونون عليه من الذلة، عكس ما
كانوا يريدون، فقال:
-
{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون
عليهم ضدا}.
فإن هذه الآلهة التي عبدوها من دون الله تعالى، ابتغاء طلب العزة بالنصرة
والحفظ، ستكون ضد عبادها يوم القيامة، ستلعنهم وتتبرأ منهم، كما قال تعالى:
-
{وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا، ثم يوم
القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين}.
- {إذ
تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب}.
وهكذا كل من ركن إلى مخلوق، أيا كان، لن يجد عنده إلا الذلة، فكيف إذا كان
هذا المخلوق عدوا متربصا؟، فلا عقل حينئذ لمن اتخذه وليا ونصيرا، وسارع إليهم
خشية الدوائر..!!.
فما الدائرة إلا من الكافرين، وما البلايا إلا منهم، لو كانوا يعلمون..
؟؟!!..
وقد نهى الله تعالى المؤمنين عن الركون إلى
الكافرين بوعيد شديد، حيث قال:
-
{ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم
لا تنصرون}.
- {يا
أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن
تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا}.
وبين سبحانه أنه لا ولي للمؤمنين، ولا ركن لهم يأوون إليه إلا هو سبحانه
وتعالى، فقال جل ذكره:
-
{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}.
فمن آوى إلى ركن الله تعالى، أواه الله، وحماه، وأعزه، ونصره، حيث له القوة
جميعا، قال تعالى:
- {إن
بطش ربك لشديد}.
-
{وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات
بيمينه}.
-
{ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا}.
-
{إنه قوي شديد}.
ومن آوى إلى مخلوق، فقد آوى إلى ضعيف، فما له إلا الذلة، فهذا في المخلوق
بعامة، فكيف إذا آوى إلى كافر؟، فقد رمى بنفسه فيمن لا يرقب فيه إلا ولا ذمة،
ومن إذا ثقف بسط يده ولسانه بالسوء، الذي يتربص بالمؤمنين الدوائر، ويكيد لهم
كيدا، ويمكر بهم مكرا..!!.
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا
العزة بغيره أذلنا الله.. اعتز الأنبياء بالله تعالى، وركنوا إليه، فنصرهم،
وأعز جانبهم..
واعتز محمد صلى الله عليه وسلم بربه تعالى، وركن إليه، فأعزه ونصره..
واعتز أصحابه من بعده بالله تعالى، وركنوا إليه، واتخذوه وليا ونصيرا،
فأعزهم، ونصرهم، وأعلى ذكرهم، وأبقاهم قدوة وأئمة يهتدى بهم..
وهكذا الأئمة من بعدهم، الذين نصروا الإسلام، وسار بذكرهم الركبان والأجيال:
-
{إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، يوم لا
ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار}.
-
{ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين* إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم
الغالبون}.
- {إن
ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله
فليتوكل المؤمنون}.
--
أما من طلب العزة والنصرة من غير القوي
الجبار سبحانه، فما ذاق إلا الذلة والهوان:
فرعون اعتز بنفسه، فأذله الله..
النمروذ اعتز بنفسه، فأذله الله..
وأبو جهل اعتز بآلهته، فأذله الله..
فارس والروم اعتزت بقوتها، كـ"عاد"، فمزقها الله، ودمرها، وأذلها..
دول الطوائف في الأندلس اعتزت وركنت إلى النصارى، وقدمت إليهم ولاءها،
وأعانتهم على إخوتها في الإسلام حبا وطمعا في الملك، فذلت، وهزمت، وزالت من
الوجود على أيدي من ابتغوا عندها العزة..
الشيوعية اعتزت وتكبرت بإلحادها، فتحطمت وتلاشت، ولم يبق لها من ذكر إلا
الخزي واللعنة.
وهكذا، ففي كل قرن وجيل مثال وعبرة، تُظهر الحق، وتدمغ الباطل.. لمن يفهم.
وعجلة التاريخ يدور بنفس الطريقة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالسنة
لا تتغير:
من ركن إلى الله تعالى عزّ.. ومن ركن إلى غيره ذل.
-
{لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي
بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}.
إن في الأمر لسرا..؟!!..
من ركن إلى الله تعالى، فقد ركن إلى: من لا يخلف الميعاد.. من وعده حق.. من
كلامه صدق.
ركن إلى من لا يظلم مثقال ذرة.. إلى الملك الأعلى، والغني الكريم، الذي يعطي
بغير حساب، الذي يعفو، ويغفر، ويرحم رحمة واسعة.
ومن ركن إلى غيره، فقد ركن إلى: من يخلف الميعاد.. من وعده ريبة.. وكلامه
دخن.
ركن إلى من لا يتورع من ظلم، إلى الفقير، الضعيف، البخيل، صاحب الهوى، الذي
لا يرحم، ولا يسامح، إلى الذي الشيطان يجري في عروقه.
{هل يستويان مثلا الحمدلله بل أكثرهم لا يعلمون}.