الحمدُ للهِ وبعدُ ؛
كتبتُ بحثاً عن معاويةَ بنِ أبي سفيانٍ – رضي الله عنهما - ، وذكرتُ فيه
جملةً من مناقبهِ وفضائلهِ ، وقد نال معاويةُ – رضي الله عنه – من سهامِ
المبتدعةِ وطعنهم فيه ما لم ينلهُ غيرهُ ، بل عند البعضِ يُلعنُ معاويةُ –
رضي اللهُ عنه - ، وأما أهلُ السنةِ والجماعةِ فيعرفون له فضلهُ ومكانتهُ ،
فيحبونهُ ويجلونهُ .
فهذا عبدُ اللهِ بنُ المباركِ – رحمهُ اللهُ – يقولُ في حقِّ معاويةَ – رضي
اللهُ عنه – كما في " البدايةِ والنهايةِ " (8/139) لابنِ كثيرٍ : "
معاويةُ عندنا محنةٌ ، فمن رأيناهُ ينظرُ إليهِ شزراً ، اتهمانهُ على
القومِ – يعني الصحابةَ – " .
وقال الربيعُ بنُ نافعٍ الحلبي كما في " البدايةِ والنهايةِ " (8/139)
أيضاً : " معاويةُ سترٌ لأصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فإذا كشف
الرجلُ السترَ ، اجترأ على ما وراءهُ " .
وفي هذا البحثِ سنقفُ مع حادثةٍ ومقالةٍ باطلتين في حقَّ معاويةَ رضي اللهُ
عنه .
قصةُ ترشيحِ معاويةَ ابنه يزيد لولايةِ
العهدِ بمشورةٍ من المغيرة بن شعبة :
نسبةُ القصصِ التي لا تصحُ في حقِّ معاويةَ كثيرةٌ جداً ، ومنها قصةٌ
ترشيحِ معاويةَ ابنهُ يزيد لولايةِ العهدِ بمشورةٍ من الصحابي الجليلِ
المغيرة بنِ شعبةَ رضي اللهُ عنه ، ويعتبرونهُ العقلَ المدبرَ – زعموا –
للفكرةِ ، واعتمدوا في ذلك على روايةٍ مفادها : " أن المغيرةَ بنَ شعبة –
رضي اللهُ عنهُ – دخل على معاويةَ ، واستعفاهُ من ولايةِ الكوفةِ فأعفاهُ ،
واراد معاويةُ أن يولي بدلاً منه سعيدَ بنَ العاص ، فبلغ ذلك أحد الموالين
للمغيرة ، وتأثر المغيرةُ عند ذلك وتمنى العودةَ للإمارةِ ، فقام فدخل على
يزيد وعرّض له بالبيعةِ ، فأخبر يزيد والدهُ بما قال له المغيرةُ ، فاستدعى
معاويةُ المغيرةَ بنَ شعبةَ ، وأمرهُ بالرجوعِ والياً مرةً أخرى على الكوفة
وأن يعملَ في بيعةِ يزيد " .
ولنا مع هذه الروايةِ وقفاتٌ :
الوقفةُ الأولى :
أورد الشيبانيُّ في " مواقفِ المعارضةِ في خلافةِ يزيد بنِ معاويةَ " ( ص
84 ) هذه الروايةَ وقال عنها : " أوردها ابن أبي الدنيا في " الإشرافِ في
منازلِ الأشرافِ " ( ص 121) بإسنادٍ ضعيفٍ ، والطبري في " تاريخِ الأممِ
والملوكِ " (5/301 – 302) بإسنادٍ ضعيفٍ جداً ، والذهبي في " تاريخِ
الإسلام " في حوادثِ (61 – 80) ص 272 بإسنادٍ ضعيفٍ جداً " .ا.هـ.
فالروايةُ لا تثبتُ سنداً .
وقال الشيباني أيضاً ( ص 85 ) : " وبالنظرِ إلى التناقضِ الذي تحملهُ هذه
الروايةُ تجعلنا نقفُ موقف المتشككِ والمنكرِ لهذه الروايةِ ، وخاصةً أن
سندها لا يشجعُ على قبولها أو الاستئناسِ بها بأي حالٍ من الأحوالِ "
.ا.هـ.
الوقفةُ الثانيةُ :
مما يردُّ التهمة عن المغيرة بنِ شعبةَ – رضي الله عنه – بأنه صاحبُ فكرةِ
ترشيحِ يزيد بنِ معاويةَ لولايةِ العهدِ ما ذكرهُ ابنُ كثيرٍ في " البدايةِ
والنهايةِ " (8/80) : " وقد كان معاويةُ لما صالحَ الحسنَ ، عهد للحسنِ
بالأمرِ من بعدهِ ، فلما مات الحسنُ قوي أمر يزيد عند معاويةَ " .
علق الدكتور خالد الغيث في " مروياتِ خلافةِ معاويةَ " ( ص 450 ) : " وهذا
يردُّ التهمةَ الموجهةَ إلى المغيرة بنِ شعبةَ بأنه صاحبُ فكرةِ ترشيحِ
يزيد بنِ معاويةَ لولايةِ العهدِ ، لأن المغيرةَ توفي سنة 50 هـ ، أي قبل
وفاةِ الحسنِ رضي اللهُ عنهما " .ا.هـ.
الوقفةُ الثالثةُ :
أن معاويةَ هو من أمر بعزلِ المغيرة بنِ شعبةَ – رضي الله عنه - ، وعين
بدلاً منهُ زياد بن أبي سفيان .
قال الشيباني في " مواقفِ المعارضةِ في خلافةِ يزيد بنِ معاويةَ " ( ص 85 )
: " ثبت عن عميرِ بنِ سعيدٍ النخعي الأصبهاني حين قال لِمُطَرِّف : " ألا
أخبرك بكل أميرٍ أتانا حتى مات معاويةُ : أتانا سعيدٌ ثم ... ثم إن معاويةَ
استعمل علينا المغيرةَ بنَ شعبةَ ، ثم عزل المغيرةَ ، واستعمل علينا زياداً
... " .
أخرجهُ أحمدُ في " العللِ ومعرفةِ الرجال (2/25) بإسنادٍ صحيحٍ .
وجاء من طريقٍ آخر عند الطبري ما يعضدُ ويؤكدُ رواية عمير بنِ سعيدٍ النخعي
، حيثُ إن المغيرةَ كتب إلى معاويةَ : " أما بعد ، فإني قد كبرت سني ، ودق
عظمي ، وشَنِفَت لي قريشٌ ، فإن رأيت أن تعزلني فاعزلني . فكتب إليه
معاويةُ : جاءني في كتابك تذكرُ فيه أنه كبرت سنك ، فلعمري ما أكل عمرك
غيرك ، وتذكرُ أن قريشاً قد شنفت لك ، ولعمري ما أصبت خيراً إلا منهم ،
وتسألني أن أعزلك ، فقد فعلت ، فإن تك صادقاً فقد شفعتك ، وإن تك مخادعاً
فقد خدعتك " .
أخرجهُ الطبريُّ في " تاريخِ الأممِ والملوكِ (5/331) بإسنادٍ رجالهُ ثقاتٌ
إلى جعفر بنِ بُرقان
وبهذا يتبينُ أن المغيرةَ بنَ شعبةَ قد عُزل فعلاً عن الكوفة ، ولم يتولى
الإمارةَ حتى مات سنة خمسين للهجرةِ " .ا.هـ. بتصرف .
الوقفةُ الرابعةُ :
قال الشيباني ( ص 86 ) : " ثم إذا فرضنا أن هذه الحادثةَ كانت حوالي سنة 45
، أو 46 هـ ، فإن سنّ يزيد في تلك الفترة لم يتجاوز الثامنةَ عشرة ، فكيف
يمكن أن يغامر معاويةُ بالبيعةِ لولده في تلك السن ، ولم يُعرف يزيدُ بشيءٍ
من الأعمالِ الجليلةِ حتى ذلك التاريخ – أي أن ذلك قبل قيادته لجيش
القسطنطينية بحوالي أربع سنوات " .ا.هـ.
وفي هذه الوقفاتِ كفايةٌ لمن أراد الحقَّ ، وأنصفَ الخلق ، وعرف للصحابةِ
حقهم .
مقولةٌ تُنسبُ إلى الحسنِ البصري
مقولةٌ نُسبت إلى الحسنِ البصري في حقِّ معاويةَ رضي اللهُ عنه ، وطار بها
الحاقدون المبغضون لمعاويةَ رضي اللهُ عنه ، وأصبحوا يرددونها كلما ورد
ذكرُ معاويةَ رضي الله عنه ، ويتناقلونها على أنها مما ينبغي التسليم بها ،
ونصها :
قال أبو مخنف : عن الصقعب بن زهير ، عن الحسن ، قال : أربعُ خصالٍ كن في
معاويةَ ، لو لم تكن فيه إلا واحدةٌ لكانت موبقةً : انتزاؤهُ على هذه
الأمةِ بالسيفِ حتى أخذ الأمرَ من غيرِ مشورةٍ وفيهم بقايا الصحابة وذوو
الفضيلةِ ، واستخلافهُ بعده ابنهُ – يزيد – سكيراً خميراً يلبسُ الحريرَ
ويضرب بالطنابيرِ – أي العود وهو من آلات اللهو - ، وادعاؤه زياداً ، وقد
قال رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم - : " الولدُ للفراشِ وللعاهرِ الحجر
" ، وقتلهُ حُجراً – وهو أحدُ الصحابةِ العباد – وأصحاب حجر ، فيا ويلاً له
من حُجرٍ ويا ويلاً له من حُجرٍ وأصحاب حُجرٍ " .
أخرجها ابنُ الأثيرِ في " الكامل " (3/487) بغير سندٍ ، والطبري في "
تاريخِ الأمم والملوكِ " (3/232) .
وفي سندها أبو مخنف لوط بنِ يحيى الأزدي ، قال عنه الحافظُ الذهبي في "
الميزانِ " (3/419) : " إخباري تالفٌ لا يوثق بهِ " ، فالخبرُ لا يصلحُ
للاحتجاجِ به ، إلى جانب أنه شيعي محترقٌ كما ذكر ابنُ عدي .
وقد ردَّ العسقلاني في " بل ضللت " ( ص 399 – 401 ) على كلِّ ما نُقل عن
الحسنِ البصري فقال : " لو فرضنا صحة هذا الكلام عن الحسن ، لما كان فيه أي
مطعن في معاوية ، فالادعاء بأن معاوية أخذ الامر من غير مشورة فباطل ، لأن
الحسن تنازل له عن الخلافة وقد بايعه جميع الناس ولم نعلم أن أحداً من
الصحابة امتنع عن مبايعته .
وأما استخلافه يزيد فقد تم بمبايعة الناس ومنهم عبد الله بن عمر ، ولم
يتخلّف إلا الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير ، وليس تخلّف من تخلف عن
البيعة بناقض لها ولا يمثل أي مطعن في معاوية .
أما أن يزيد خميراً يلبس الحرير الخ ، فقد كذّبه ابن عليّ محمد بن الحنفية
الذي أقام عند يزيد فوجده بخلاف ما يدعون .
أما ادعاؤه زياداً بخلاف حديث النبي صلى اللهُ عليه وسلم عندما قال لعبد بن
زمعة : " هو لك الولد للفراش وللعاهر الحجر " باعتبار أنه قضى بكونه للفراش
وبإثبات النسب فباطل لأن النبي صلى اللهُ عليه وسلم لم يثبت النسب، لأن
عبداً ادعى سببين : أحدهما : الأخوة ، والثاني : ولادة الفراش ، فلو قال
النبي صلى اللهُ عليه وسلم هو أخوك ، الولد للفراش لكان إثباتاً للحكم
وذكراً للعلة ، بيد أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم عدل عن الأخوة ولم يتعرض
لها وأعرض عن النسب ، ولم يصرح به ، وإنما هو في الصحيح في لفظ ( هو أخوك )
، وفي آخر ( هو لك ) معناه فأنت أعلم به بخلاف زياد فإن الحارث بن كلدة
الذي ولد زياد على فراشه لم يدّعيه لنفسه ولا كان ينسب إليه فكل من ادعاه
فهو له إلا أن يعارضه من هو أولى به منه فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز بل
فعل فيه الحق على مذهب الإمام مالك ، ومن رأى أن النسب لا يلحق بالوارث
الواحد أنكر ذلك مثل الحسن على فرض صحة نسبة هذا الادعاء له فكيف إذا ظهر
كذب هذه النسبة إليه ، وعلى كل فالمسألة اجتهادية بين أهل السنة ، وأما قتل
حجر فقد ذكرت الأسباب التي دعت معاوية لذلك بما يغني عن الإعادة هنا .
ومما سبق يتضح لدينا أن هذه المآخذ الأربعة على معاوية لا تمثل في حقيقتها
أي مطعن به والحمد لله رب العالمين " .ا.هـ.