السؤال :
أمر قائد مجموعة جهادية أحد المجاهدين بالتنكر في لباس قسيس و لبس الصليب و
الدخول إلى كنيسةٍ في إحدى بلاد الكفر ، و الصلاة فيها بصلاة النصارى ؛ و ذلك
ليقوم بإنقاذ حياة أحد المسلمين الأسرى ، و قد قام بتنفيذ الأوامر كاملةً ، و
تم إنقاذ حياة المسلم .
السؤال : هذا المجاهد قد ارتكب عملاً كفرياً ( لِبسُ لِباس القسيس ، و تعليقُ
الصليب ، و الصلاة النصرانية ) ، و هو يَعتَبِرُ ذلك عملاً كُفرياً ، و لم
يفعله إلا لإنقاذ أخيه المسلم ، و لخداع من كان يريد قتله ، فما حُكمُ الشرع
في هذا العمل ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
لا أعلَم فيما وقفتُ عليه من النصوص الشرعيّة ما يصلُح دليلاً على جواز
التظاهر بالكفر ( قولاً أو عمَلاً ) لغير المُكرَه مع اطمئنان قلبه بالإيمان
، و هذا لا خلاف في جواز تظاهره بالكُفر لدلالة النص القطعيِّ على ذلك .
قال تعالى :
( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَ
قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَ لَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ
صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )
[ النحل : 106 ] .
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية : ( من كفر بالله من بعد إيمانه , إلا من
أكره على الكفر ، فنطق بكلمة الكفر بلسانه ، و قلبُه مطمئن بالإيمان ,
موقِِِنٌ بحقيقته ، صحيح عليه عزمُه ، غير مفسوح الصدر بالكفر ; لكن من شرح
بالكفر صدراً ، فاختاره و آثره على الإيمان ، و باح به طائعا , فعليهم غضب من
الله ، و لهم عذاب عظيم . و بنحو الذي قلنا في ذلك ورد عن ابن عباس رضي الله
عنهما قوله :
( وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ )
فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه , فعليه غضب من الله ، و له عذاب
عظيم . فأما من أكره فتكلم به لسانه و خالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من
عدوه , فلا حرج عليه , لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عُقِدَت عليه
قلوبهم ) .
و روى ابن ماجة بإسناد صحيحٍ عَنْ أَبِى ذَرٍّ الْغِفَاريِّ رضي الله عنه
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم :
« إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَ النِّسْيَانَ وَ مَا
اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ »
.
و في رواية في سنن ابن ماجة أيضاً ، و سنن الدارقطني بإسناد صحيح عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ :
« إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَ النِّسْيَانَ وَ مَا
اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ »
.
و ذكر جماعة من أهل التفسير ( منهم الطبري و القرطبي و ابن كثير و غيرهم ) في
سبب نزول آية النحل أنَّها نزلت في عمّار بن ياسر رضي الله عنهما حينما نطقَ
بالكفر مكرهاً ، ليُفلِت من فتك المشركين ، فلمّا بلغ ذلك رسول الله صلى الله
عليه و سلَّم سأَلَ عمّار : ( كيف تجد قلبك ؟ ) قال : أجد قلبي مطمئناً
بالإيمان ، قال : ( فإن عادوا فعُد ) ، و في ذلك نزلت الآية .
و مع ذلك فإنَّ صبر المؤمن على الأذى ، حتى لو قُتِلَ صابراً محتسباً خيرٌ له
، و أحرى به من التلفُّظ بالكفر ظاهراً ، و لو كان الإيمان في قلبه راسخاً .
أمّا إن كان المكرَهُ غيرَه ، أو كان تظاهُرُهُ بالكفر لإنقاذ غيره من الموت
ـ على نحو الصورة المذكورة في السؤال ـ فليس في أدلّة الترخيص في التلفّظ
بالكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان ما يدلّ عليه ، و قد أَبعَد النَجعة ، و
بالَغَ في التعسّف في إعمال النصوص مَن رخّص فيه من المعاصرين ، و لعلّهم
مستأنسون فيما ذهبوا إليه بمذهب ابن حزم الظاهري القائل ـ رحمه الله ـ : (
والإكراه هو كل ما سمي في اللغة إكراها ، وعرف بالحس أنه إكراه ، كالوعيد
بالقتل ممن لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به ، و الوعيد بالضرب كذلك ، أو الوعيد
بالسجن كذلك ، أو الوعيد بإفساد المال كذلك ، أو الوعيد في مسلم غيره بقتل أو
ضرب أو سجن أو إفساد مال ، لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلم أخو
المسلم لا يظلمه و لا يسلمه ) [ المحلى : 8 / 330 ] .
قلتُ : و لا وَجهَ لمن استدلّ على جواز التظاهر بالكفر لإنقاذ أسير مسلمٍ أو
نحوه بالقياس على ما أخبر الله تعالى به في قصّة خليله إبراهيم عليه و على
نبيّنا الصلاة و السلام حين قال عن الكوكب و القمر و الشمس ( هذا ربّي ) [
الأنعام : 76 و 77 و 78 ] لأنّ هذا شرع متقدّمٌ مخالفٌ لما جاءت به شريعة
الله الخاتمة من ناحية ، و لأنّ قول خليل الرحمن ذلك ـ من ناحية أخرى ـ هو من
قبيل التهكّم و التقريع ، و تنبيه الغافل و تذكير الناسي ببطلان ما عليه قومه
من عبادة الأوثان ، و ليس من التظاهر بالكفر في شيء ، بدليل قوله عليه السلام
في نهاية الحوار :
( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكون )
[ الأنعام : 78 ] .
و قد أصاب من قال في توجيه قول خليل الرحمن عليه السلام في الكواكب : المعنى
هذا ربي على زعمكم ; كما قال تعالى :
( أين شركائي الذين كنتم تزعمون )
[ القصص : 74 ] . و قال :
( ذق إنك أنت العزيز الكريم )
[ الدخان : 49 ] أي عند نفسك ، كما رواه القرطبي في تفسيره ، و الله أعلم .
و لا وَجه أيضاً لاستدلال من جوّزَ التظاهر بالكفر لإنقاذ أسير مسلمٍ بما ثبت
في قصّة قتل كَعبِ بن الأشرف على يد محمّد بن مسلمة رضي الله عنه التي رواها
الشيخان و غيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من لكعب بن الأشرف ، فإنه قد
آذى الله و رسوله ) ، فقام محمد بن مسلمة ، فقال : يا رسول الله أتحب أن
أقتله ؟ قال : ( نعم ) ، قال : فأذن لي أن أقول شيئا . قال : ( قل ) ، فأتاه
محمد بن مسلمة ، فقال : إن هذا الرجل قد سألنا صدقة ، و إنه قد عنانا ،
و إني قد أتيتك أستسلفك ، قال : و أيضا و الله لتَمَلُّنَّهُ . قال :
إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه ، و قد أردنا
أن تُسْلِفَنا وَسَقاً أو وَسَقَيْن ... الحديث .
فهذا الحديث ـ على فَرَض التسليم بأنَّ ما قالَه محمّد بن مسلمة كفرٌ ـ لا
دليل فيه على تجويز التظاهر بالكفر لإنقاذ أسير أو نحوه ، بل غاية ما يدلُّ
عليه هو جواز التظاهر بالكفر لتخليص الأمّة من طاغوت أو رأسٍ من رؤوس الكفر ،
و هذا لا إشكال فيه ، بل هو من باب ارتكاب أدنى المفسدتين لدرء أعظمهما ،
إعمالاً للقاعدة الفقهيّة : ( إذا تعارضَت مفسدتان روعيَ أعظمهما ضرراً
بارتكاب أخفّهما ) و للبحث في هذه الجزئيّة من مسائل التظاهر بالكفر مقام آخر
يطول فيه الكلام .
و الخلاصة
أن التظاهر بالكفر لا يجوز إلا للمكرَه ، و من توسّع في هذا الباب يعوزه
الدليل ، مع أنّ الصبر على البلاء ، و عدَم الرضوخ إلى الإكراه المفضي إلى
التلفّظ بالكفر ، أو العمل به – ظاهراً – هو الأولى لما رواه ابن ماجة عن أبي
الدرداء رضي الله عنه ، أنّه قال : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم :
( أن لا تُشرك بالله شيئاً و إن قُطعت أو حُرِّقت )
، و هذا حديث حسنٌ بشواهده .
و أختم
– تتميماً للفائدة - بقول الشيخ محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله عقب تعداد
نواقض الإيمان : ( و لا فَرق في جميع هذه النواقض بين الهازل ، و الجادّ ، و
الخائف ، إلاّ المُكرَه ) ، و قال رحمه الله أيضاً : ( أعظَم أهل الإخلاص ، و
أكثرُهُم حَسَنات ، لو يقول كلمة الشرك مع كراهيته لها ، ليقود غيره بها إلى
الإسلام حبِطَ عَمَلُه ، و صار من الخاسرين ، فكيف بمَن أظهَر أنّه منهم ، و
تكلّم بمائة كلمة لأجل تجارة ، أو لأجل أنّه يحُجّ لمّا مُنِعَ الموحّدون من
الحجّ ) [ الدرر السنيّة : 1 / 127 ، 128 ] .
هذا ، و الله الموفّق ، و هو الهادي إلى سواء السبيل .
و الحمد لله ربّ العالمين .