السؤال :
ما هو الحكم الشرعي في العمل في مجال القضاء حالياً حيث أنني أعمل قاضياً
وأجد حرجاً شديداً عندما أصدر حكماً يخالف شرع الله ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إنّ الحكم بما أنزل الله فريضة شك فيها و لا ريب ، قال تعالى : ( إِنَّا
أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ) [ النساء : 5 ] .
و قال سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
سَمِيعًا بَصِيرًا ) [ النساء : 58 ] .
و قد وصف الله تعالى من لم يحكم بحُكمهِ العدلِ بالكفر و الظلم و الفسوق ، في
معرض الوعيد الشديد فقال تعالى : ( و َمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) ، و قال : ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) و قال أيضاً : ( وَ
مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )
[ المائدة : 44-45-47 ] .
و أقلّ ما يُحمَل عليه الوصف بهذه الصفات هو الفسق ، و العياذ بالله .
و الأحاديث الواردة في التحذير من القضاء بخلاف الشرع ، أو بما يوافقه و لكن
عن جهلٍ كثيرةٌٌٌ ، و من أشهرها ما رواه الترمذي و أبو داود و ابن ماجة عَنِ
عبد الله بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ : « الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ وَاحِدٌ فِى الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِى
النَّارِ فَأَمَّا الَّذِى فِى الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى
بِهِ و رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِى الْحُكْمِ فَهُوَ فِى النَّارِ وَ
رَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِى النَّارِ » .
جاء في عون المعبود في شرح سنن أبي داود تعليقاً على هذا الحديث : و الحديث
دليل على أنه لا ينجو من النار من القضاة إلا من عرف الحق و عمل به , و
العمدة العمل , فإن من عرف الحق و لم يعمل فهو و من حكم بجهل سواء في النار ,
و ظاهره أن من حكم بجهل و إن وافق حكمه الحق فإنه في النار لأنه أطلقه و قال
: ( فقضى للناس على جهل ) فإنه يصدق على من وافق الحق و هو جاهل في قضائه أنه
قضى على جهل , و فيه التحذير من الحكم بجهل أو بخلاف الحق مع معرفته .اهـ .
و جاءت السنّة المطهّرة بالتحذير من ولاية القضاء لمن لا يقدر على إنفاذ حكم
الله تعالى فيما شجر فيه الخلاف بين المتخاصمين ، فقد روى الترمذي و أبو داود
و ابن ماجه و أحمد و الدارقطني و الحاكم و البيهقي بإسناد حسن عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « مَنْ وَلِىَ
الْقَضَاءَ أَوْ جُعِلَ قَاضِياً بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ
سِكِّينٍ » .
قال صاحب التحفة : ( فقد ذُبح ) بصيغة المجهول ( بغير سكين ) قال ابن
الصلاح : المراد ذبح من حيث المعنى لأنه بين عذاب الدنيا إن رشد وبين عذاب
الآخرة إن فسد . وقال الخطابي ومن تبعه إنما عدله عن الذبح بالسكين ليعلم أن
المراد ما يخاف من هلاك دينه دون بدنه وهذا أحد الوجهين . والثاني أن الذبح
بالسكين فيه إراحة للمذبوح , وبغير السكين كالخنق وغيره يكون الألم فيه أكثر
فذكر ليكون أبلغ في التحذير .
و هذا كلّه قبل أن تُبتلى الأمّة بإقصاء الشريعة عن الحكم ، و تبنِّي قوانين
الغرب المستوردة ، و شرائع البشر ، فكيف بما آلت إليه أحوال المسلمين اليوم .
فاحذر أخي الكريم من الركون إلى الوظائف المفضية إلى الحكم بغير ما أنزل الله
، و منها تولي القضاء على الصفة التي ذكرتها في سؤالك ، مع عدم قدرتك على
التغيير أو الصدع بالحق ، و اعلم أن الإقدام على تولي القضاء بغير الشريعة من
كبائر الذنوب في أقلّ أقوال أهل العلم ، و قد يكون كفراً أكبر إذا اعتقد من
تلبّس به أنّه جائز أو فضّله على الشريعة الغراء أو ساواه بها ، مع أن الراجح
الذي ندين الله تعالى به ، و نتعبّده بإظهاره و الجهر به هو القول بكفر من
حكم بغير ما أنزل الله مطلقاً سواء كان ذلك بالتشريع أو المشاركة فيه تحت
قباب البرلمانات المعاصرة ، أو بالتنفيذ في القضاء ، أو الفتيا ، أو أيّ
صورةٍ من صور الحكم بغير ما أنزل الله ، أو التحاكم إليه ، إعمالاً لظاهر
النصوص ، و إعمال النص أولى من إهماله ، و الله الموفق .
و إنّي أربأ بنفسي و بإخواني أن نكون مطيّة للحكام الظلمة ، أو المشرّعين
المبدّلين ، أو أعواناً لهم على الحكم بغير ما أنزل الله ، كي لا نُذبَح بغير
سكّين .
و الله المستعان ، و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه
أجمعين .