السؤال :
هل يجوز للمكلّف مس المصحف و قراءة القرآن الكريم بدون وضوء ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
اختلف العلماء في حكم مس البالغ حال تلبُّسه بالحدث الأصغر ( و هو ما يُرفَع
بالوضوء أو التيمم ) للمصحف ، على قولين :
القول الأول :
أنه لا يجوز له ذلك ، و هو المذهب المنقول عن جمع من الصحابة منهم علي بن أبي
طالب ، و عبد الله بن مسعود ، و سعد ابن أبي وقاص ، و عبد الله بن عمر ، و
سعيد بن زيد ، و سلمان الفارسي ، وغيرهم ، و لا يعرف لهم مخالف ، و قال به
جمهور التابعين و منهم : عطاء بن أبي رباح ، و ابن شهاب الزهري ، و الحسن
البصري ، و طاووس بن كيسـان ، و النخعي ، و الفقهاء السبعة ، و هو مذهب
الأئمة الأربعة .
القول الثاني :
أنه يجوز له مس القرآن ، و إليه ذَهَب بعض التابعين ، و هو مذهب الظاهرية .
و الراجح
عدم جواز مس المصحف للبالغ المُحدِث حَدَثاً أصغر ، و ذلك للأدلّة التالية :
• أولاً :
قال الله عز وجل : ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون
تنزيل من رب العالمين ) [الواقعة : 77-80] .
و قد جاءت الآية بصيغة الحصر فاقتضى ذلك حصر الجواز في المطهرين من الأحداث
والأنجاس من بني آدم .
والأصل في الطهارة المطلقة في العرف الشرعي : هي الطهارة من الحدثين الأصغر
والأكبر ، و هذا ما فهمه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يحفظ عن أحد
منهم - فيما نعلم - أنه مس المصحف و هو على غير طهارة ، أو قال بجوازه .
• ثانيًا :
روى الدارقطني و البيهقي و الحاكم بإسناد صححه و وافقه الذهبي عن حكيم بن
حزام رضي الله عنه قال : ( لما بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى
اليمن قال : (لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر) .
• ثالثاً :
روى الدارقطني و الهيثمي في المجمع و الطبراني في الكبير بإسناد وثَّقا
رجالَه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم
: ( لا يمس القرآن إلا طاهر ) ، و جوّد اسناد هذا الحديث ابن حجَر في الفتح ،
و نقل تصحيح إسناده عن بعض أهل العلم ( في إعلاء السنن ) .
• رابعاً :
روى أبو داود في ( المصاحف ) ، و الهيثمي في مجمع الزوائـد ، و عزا إلى معجم
الطبراني الكبير عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال : وفدنا على رسول
الله صلى الله عليه و سلم فوجدوني أفضلهم أخذًا للقرآن ، و قد فَضَلتُهم
بسورة البقرة ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( قد أمّرتُك على أصحابك و
أنت أصغرهم ، و لا تمس القرآن إلا و أنت طاهر ) .
• خامساً :
روى عبد الرزاق في مصنفه ، و مالك في موطئه ، وأبو داود في المصاحف ، و
الدارمي في سننه ، و الحاكم في مستدركه ، و الدارقطني و البيهقي كلٌّ في سننه
، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال : كان
في كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : ( لا يُمَسُّ القرآنُ إلا
على طُهرٍ ) ، قال البغوي : سمعت أحمد بن حنبل ، وقد سُئل عن هذا الحديث فقال
: أرجو أن يكون صحيحًا ) ، و قال أيضًا : ( لا أشك أن رسول الله صلى الله
عليه و سلم كتبه ) .
قلتُُُ :
إنّ الأحاديث الدالّة على تحريم مس المصحف على المحدث لا يخلو إسناد كلٍ منها
بمفرده من مقال إلا أنها بمجموع طرقها ترقى في أقل أحوالها إلى درجة الحَسَن
، و يقتضي ذلك صحّة الاحتجاج بها ، و وجوب العمل بمقتضاها .
فإذا أضيف إلى هذه الأدلّة إجماع الصحابة السكوتي على القول بعدم جواز مس
المحدث البالغ للمصحف ، لزمنا القول بقولهم و اتبّاع مذهبهم في التحريم ، و
هذا مذهب الجمهور ، قال شيخ الإسـلام ابن تيمية : ( و أما مس المصحف فالصحيح
أنه يجب له الوضوء كقول الجمهـور ) [ مجموع الفتاوى : 21/288 ] .
و ذهب الحافظ ابن عبد البر أبعدَ من ذلك فقال : ( أجمع فقهاء الأمصار الذين
تدور عليهم الفتوى و على أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا طاهر ) [ الاستذكار
، 8/10 ] .
و الحمد لله ربّ العالمين ، و صلى الله و سلّم على نبيّنا محمّد و آله و صحبه
أجمعين .