السؤال :
هل لوالدي الحق في أن يأخذ من مالي بحاجة أو بغير حاجة ؟ و ما حكم الشرع إذا
كان يأخذ من مالي و يعطي لإخواني ؟ و هل الأم و الأب في الأخذ من مال
أبنائهم سواء ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن الله تعالى أوصى بالآباء خيراً ، و أوجب لهم على أبنائهم حقوقاً معنوية
( كتوقيرهما ، و التلطف في مخاطبتهما ، و عدم التأفف منهما ) و ماديَّة (
كالنفقة بالمعروف على الموسر ) .
قال تعالى : ( و قَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلا إيَّاهُ و
بِالوَالِدَيْن إحساناً إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا
أو كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ و لا تَنْهَرْهُمَا و قُلْ لَهُمَا
قَوْلاً كَرِيْماً ) [ الإسراء : 23 ] .
و يجمع بين الحق المعنويِّ و الماديِّ للآباء على الأبناء وُرُود النصِّ
بأنَّ لهم حقٌّ ثابت في أموال أبنائهم ، حيث إنَّ حصولهم على هذا الحق و
تمكينهم منه واجب ماديٌّ على الأبناء ، و جعلُ ذلك لهم بمثابة الكسب الحلال
الذي لا ينازعون في أخذه ، و لا فضلَّ و لا منَّةَ لأحدٍ فيه عليهم يترك
أثراً معنوياً حسَناً في نفوسهم .
لذلك قضت الشريعة الغراء بأن للأب أن يأخذ من مال ابنه مقدار حاجته بكرامةٍ
و عزة نفس لا يتبعها أذىً و لا منَّة ، كيف و هو ـ في ذلك ـ إنَّما يأكل
مِن كَسبِه الطيب ، و يأخذ من حقِّه الثابت .
فقد روى ابن ماجة بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، أنَّ
رجلاً قال : يا رسول الله إنَّ لي مالاً و وَلداً ، و إنَّ أبي يريدُ أنْ
يجتاحَ مالي . فقال عليه الصلاة و السلام : ( أنت و مالك لأبيك ) .
و روى أبو داود و ابن ماجة في سننهما بإسناد صحيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده ، أنَّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : إنَّ لي مالاً
، و إنَّ والدي يحتاج إلى مالي ، قال : ( أنت و مالك لوالدك ، إن أولادكم
من أطيب كَسْبِكُم ، كلوا من كَسْبِ أولادكم ) .
قلتُ : و لا فرق بين الأب و الأم في أن لكل منهما الحق في أن يأخذ من مال
ولده ، لما رواه أبو داود و ابن ماجة و النسائي بإسنادٍ صحيح عن عمارة بن
عمير ، عن عمَّته ، أنها سألت عائشة رضي الله عنها : في حجري يتيم أفآكل من
ماله ؟ فقالت أم المؤمنين : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إنَّ من
أطيب ما أكل الرجل من كَسْبِهِ ، و ولَدُه مِن كَسْبِه ) .
أمَا وقد تقرر ذلك فلا بد من الإشارة إلى أن بعضَ أهل العلم ذهبوا إلى أن
للأب الأخذ من مال ولده بدون قيدٍ أو حدٍّ ، لحاجته و فوق حاجته ، سواء رضي
بذلك الابن أم لم يرضَ .
قال الشوكاني رحمه الله في شرح حديث أم المؤمنين رضي الله عنها : ( يدل على
أن الرجل مشارِكٌ لولده في ماله ، فيجوز له الأكل منه سواء أذن الولد أو لم
يأذن ، و يجوز له أيضاً أن يتصرف به كما يتصرف بماله ، ما لم يكن ذلك على
وجه السَرَفِ و السَفَه ) . [ نيل الأوطار : 5 / 391 ] .
و اعتُرِض على من ذهبَ هذا المذهب بما رواه الحاكم بإسنادٍ صححه ، و قال :
هو على شرط الشيخين ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، قالت : قال رسول الله
صلى الله عليه و سلم : ( إن أولادَكم هبةُ الله لكم ، يهب لمن يشاء إناثاً
، و يهب لمن يشاء الذكور ، فهم و أموالهم لكم إذا احتجتم إليها ) .
و هذا الحديث صححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة و الإرواء لا على
شرط الشيخين ، و قال معقباً عليه :
و في الحديث فائدة فقهيية هامة قد لا تجدها في غيره ، و هي أنه يبين أن
الحديث المشهور : ( أنت و مالك لأبيك ) ، ليس على إطلاقه ، بحيث أن الأب
يأخذ من مال ابنه ما يشاء ، كلا ؛ و إنما يأخذ ما هو بحاجة إليه ) .
قلت : و العقل و الاعتبار يشهدان لمذهب تقييد حق الأب في مال ابنه بمقدار
الحاجة لا غير ، إذ لو كان معنى قوله : ( أنت و مالك لأبيك ) على ظاهره و
إطلاقه لاستحق الأب الاسئثار بمال ولده بعد وفاته لا يشركه فيه غيره من
الورثة ، و لكانت عليه زكاته في حياته إن قصَّر في أدائها الولد ، و ليس
الأمر كذلك .
قال ابن الهمام الحنفي بعد ذكر حديث عائشة المتقدم : ( و مما يقع بأن
الحديث يعني أنت و مالك لأبيك ما أُوِّلَ أَنَّهُ تعالى وَرَّثَ الأبَ مِنْ
ابنِهِ السُدُسَ مَع وَلَدِ وَلَدِهِ ، فلو كان الكل ملكَه لم يكن لغيره
شيء مع وجوده ) .
قال ابن قدامه رحمه الله : و للأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع غناه و
حاجته بشرطين :
أحدهما : أن لا يجحف بالإبن ، و لا يأخذ ما تعلقت به حاجته .
الثاني : أن لا يأخذ من مال أحد وَلَدَيْه فيعطيه لآخر؛ لأن تفضيل أحد
الولدين غير جائز، فمع تخصيص الآخر بالأخذ منه أولى . فإذا وُجِد الشرطان
جاز الأخذ ) . [ الكافي : 2 / 471 ] .
فليتق الأبناء و الآباء ربَّهم فيما أعطَوا و ما تَرَكوا ، و لا
يجاوِزَّنَّ أحدهم حدودَ ما شرعَه الله تعالى له ، فإنه ( من يعص الله و
رسوله و يتعدَّ حدوده يدخله ناراً ) ، ( و من يتعد حدود الله فأولئك هم
الظالمون ) .
هذا ، و الله أعلم و أحكم ، و ما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت و إليه
أنيب .