السؤال :
جرت العادة عندنا على حرمان الإناث من الميراث ، و إنني أخشى أن تُحرَم بناتي
من بعدي من حقهن جرياً على العادة ، فهل يجوز لي أن أقسم مالي بين ورثتي
قسمةً شرعيَّةً و أملك كلاً منهم نصيبه قبل وفاتي ، تبرئةً للذمة ، و
ضماناً لحق الإناث من ورثتي ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
قضى أحكم الحاكمين أن المال الموروث يقسم بين الورثة بعد موت الوارث لا في
حياته ، و لو لم يرد في ذلك إلا تسمية المال الموروث ميراثاً و تركةً لكفى
دليلاً على أنَّ وقتها المحدد شرعاً يبدأ من وفاة المورِّث .
و إن أفتى بعض الأئمة و المحققين بجواز التعجيل في قسمة المال قبل وفاة
المورث بين ورثته بحسب ما قضى الله تعالى به فإن ذلك لا يبرح أن يكون خلاف
مذهب الجمهور ، و خلاف الأولى في أقل أحواله .
أما إن كانت الحال كما ورد في السؤال من خشية الافتئات على حكم الخالق و
حقوق المخلوقين التي تجب مراعاتها على كل حال فثمة مندوحة للعدول عن مذهب
الجمهور نزولاً عند مقتضى القاعدة الفقهية القائلة : إذا تعارضت مفسدتان
روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما ، و ههنا يقال : إن مفسدة تفويت حق
الإناث من الميراث أعظم ضرراً من مفسدة التعجيل في القسمة مع إعطاء كلِّ ذي
حقٍّ حقَّه .
و قد قال بجواز التعجيل بقسمة المال على قواعد المواريث قبل وفاة المورِّث
إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله ، و اختار هذا القول بعض المتأخرين
من محققي مذهبه .
ففي المغني ، لابن قدامة المقدسي رحمه الله [ 5 / 394 ] : ( قال أحمد : أحب
أن لا يَقْسِم مالَهُ ، و يدعه على فرائض الله تعالى ؛ لعله أن يولد له فإن
أعطى ولده ماله ثم ولد له فأعجب إليَّ أن يرجع فيسويَ بينهم ؛ يعني : يرجع
في الجميع أو يرجع في بعض ما أعطى كلَّ واحدٍ منهم ، ليدفعوه إلى هذا الولد
الحادث ليساويَ إخوته ، فإن كان هذا الولد الحادث بعد الموت لم يكن له
الرجوع على إخوته لأن العطية لزمت بموت أبيه ) .
و في الفروع ، لمحمد بن مفلح المقدسي الحنبلي رحمه الله [ 4 / 488 ] : (
ولا يُكره قَسْمُ حَيٍّ مالَه بين أولاده ، نقله الأكثر ... قال أحمد :
أَعْجَبُ إليَّ أن يُسَوِّيَ ) .
و في دليل الطالب لمرعي بن يوسف الحنبلي [ 1 / 179 ] : ( يباح للإنسان أن
يقسم ماله بين ورثته في حال حياته ، و يعطي مَن حَدَث حِصَّتَه وُجوباً ، و
يجب عليه التسويةُ بينهم على قدر إرثهم ) .
و في كفاية الطالب ، لأبي الحسن المالكي [ 2 / 340 ] : ( يُكره له أن يقسم
ماله بين أولاده الذكور والإناث بالسوية ، أمَّا إذا قَسَمَه بينهم على قدر
مواريثهم فذلك جائز ) .
و بناءً على ما سردنا من أقوال أهل العلم لا أرى محظوراً في أن يقسم المرء
ماله بين ورثته في حال حياته ، خاصة إذا خشي وقوع الظلم على بعض الورثة
بتأخير القسمة إلى ما بعد الوفاة .
و لكن على المسلم أن يتحرى حتى يستبريء لدينه و عِرضه فلا يَقْسم شيئاً من
ماله قسمةَ توريثٍ ما دام صحيحاً يُنْجِب ، احتياطاً من أن ينجب ولداً بعد
أن ينفد ما في يده من مالٍ بقسمته بين بقية الأبناء ، و إن حصل هذا المحذور
فعليه أن يعيد القسمة لينصف الوليد الجديد ، فلا يلقى الله و في عنقه حق
لذي حقٍّ إلا و قد أداه إليه .
هذا ، و الله أعلم و أحكم ، و ما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت و إليه
أنيب .