السؤال :
يتورع البعض عن استعمال البخور بدعوى
أنه من سَنَن غير المسلمين ، فهل هذا صحيح ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
مما لا شك فيه أن البخور يستعمل عند غير المسلمين تعبداً ، فهو من الطقوس (
الشعائر ) التعبدية في معظم الديانات الوثنية المعروفة اليوم ، و خاصة في
دول شرق آسيا و جنوبها ، حيث يكثر استعماله في المعابد و بين أيدي الكهنة و
السحرة و المشعوذين ، و لا تكاد تخلو شعيرة من شعائرهم من استعماله بأنواعه
المختلفة .
و عند الهندوس ـ خاصةً ـ يعتبر البخور طيباً مقدساً يوجبون استعماله في
أفراحهم و أتراحهم بما في ذلك إحراق موتاهم به .
و عند النصارى يقوم الرهبان و القساوسة بتطييب الحضور به في القدّاسات (
الاحتفالات الدينية ) و الجُنَّازات ( مراسم تجهيز و دفن الموتى ) ، و قد
رأينا هذا بكثرة عند طوائفهم المختلفة ، و خاصة في احتفالات أعياد الميلاد
.
و ليس اعتبار البخور من الشعائر الدينية عند النصارى بالخفي ، بل هو من
أبرز ما يظهر في مناسباتهم ، و من قُدِّر له أن يرَ شيئاً منها مصوراً أو
عياناً لم يخفَ عليه ذلك .
لذلك أفتيت مع من أفتى سابقاً بأن التطيب بالبخور مكروه في أقل أحواله ، إذ
فيه من التشبه بالكفار في بعض شعائرهم الدينية ما لا يخفى .
ثم رجعت عن القول بكراهته فضلاً عن تحريمه في حق من لا يستعمله بنية التشبه
بالكافرين في عاداتهم أو عباداتهم ، نزولاً على مقتضى الأثر ـ رغم ما في
النفس ـ لأن التطيب به كان معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه و سلم و لم
ينكره ، و لم ينه عنه .
فقد روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في المحرم الذي مات
: ( اغسلوه بماء و سدر و كفنوه في ثوبيه ، و لا تحنطوه و لا تخمروا
رأسه ؛ فإنه يبعث يوم القيامة مُلبياً ) .
و التحنيط كالتجمير و هو تبخير الميت ، أي تطييبه بالبخور .
فإن قيل : إن هذا الحديث ينهى عن تحنيط الميت ، فكيف يستدل به على المراد
بالنسبة للحيِّ ؟
قلنا : ما يراد إثباته في هذا المقام هو أن استعمال البخور كان معروفاً على
عهد النبي صلى الله عليه و سلم ، و لم ينكره أو ينهَ عنه . أمَا و قد جاء
النهي عن تحنيط الميت المحرم خاصة ، فبدلالة المخالفة ينتفي النهي عن تحنيط
المسلم حياً ، و غير المحرِم من موتى المسلمين ، و الله أعلم .
يضاف إلى ذلك أن بعض أهل العلم استحبوا إجمار ( تبخير ) الميت ما لم يكن
حاجّاً ، لما رواه أبو يعلى و الحاكم في المستدرك و البيهقي في الكبرى ، أن
رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( إذا أجمرتم فأوتروا ) .
و كذلك ما رخص فيه للمرأة المعتدة من وفاة زوجها ، فقد روى مسلم في صحيحه و
أحمد في مسنده ، عن أم عطية رضي الله عنها ، قالت : ( كُنَّا نُنْهَىَ أَنْ
نُحِدَّ عَلَىَ مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ ، إِلاَّ عَلَىَ زَوْجٍ ،
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ و عَشْراً ، و لاَ نَكْتَحِلُ ، و لاَ نَتَطَيَّبُ ، و
لاَ نَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً ، و قَدْ رُخِّصَ لِلْمَرْأَةِ فِي
طُهْرِهَا ، إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا ، فِي نُبْذَةٍ
مِنْ قُسْطٍ و أَظْفَارٍ ) .
قال النووي رحمه الله [ في شرح صحيح مسلم : 10 / 119 ] : ( أمَّا القسط
فبضمِّ القاف ، و يقال فيه : كست بكاف مضمومة بدل القاف و بتاء بدل الطَّاء
، و هو والأظفار نوعان معروفان من البخور و ليسا من مقصود الطِّيب رخَّص
فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرَّائحة الكريهة تتبع به أثر الدَّم لا
للتَّطيّب ، و الله أعلم ) .
قلتُ : ما رُخِّص فيه للمعتدة ، مع ما يجب عليها أثناء عدتها من البعد عن
الطيب و الزينة ، أولى بأن يُرَخَّص فيه لغيرها .
و عليه فلا بأس ـ و الله أعلم ـ في التطيب بالبخور و نحوه على سبيل العادة
لا العبادة ، خاصة إذا انتفت نية و شبهة التشبه بغير المسلمين .
هذا ، و الله أعلم و أحكم .
و صلى الله و سلم على نبينا محمد و آله و صحبه أجمعين .