السؤال :
أعمل موظفاً حكومياً في أحد المواقع
الأمنية الحساسة لدى حكومة جائرة ( و يراها البعض كافرة ) و أقوم من خلال
عملي بالتخذيل و الدفاع عن بعض من يراد بهم سوءٌ لأنهم قالوا : ربنا الله
ثم استقاموا ، فأُعَمِّي عنهم ما استطعت ، و إن لم أتمكن من رفع الظلم عنهم
فلا أقل من تخفيفه عنهم أو عن بعضهم ، فهل أثاب على عملي هذا ، أم أن عليَّ
تركه و البحث عن عمل آخر ، لأن فيه إعانةٌ للظلمة ، و تولٍّ للكافرين ، أو
ركونٌ إليهم ، مما يجعل كسبي حراماً ، و يلحقني في الحكم بحكام الجور ، و
العياذ بالله .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن العمل في كنف الظلمة ظلم ، و تولي الكفَرة كُفر ، و الركون إليهم موجب
لعذاب النار و العياذ بالله .
و لكن ثمة أحوال تخرج عن هذا العموم لما قد تقتضيه ضرورة الذب عن أهل
الإسلام ، أو العجز عن الإفلات من قبضة الحاكم الظالم أو الكافر ، فيكون
حال المؤمن حينئذ كحال مؤمن آل فرعون إذ يكتم إيمانه .
و يجب على من كان هذا حاله أن يتأسَ بذلك المؤمن الذي خلَّد الله ذكره في
كتابه العزيز ، إذ استغل قربه من فرعون ليذب عن نبي الله موسى عليه و على
نبينا الصلاة و السلام بقوله فيما حكاه الله تعالى عنه : ( أَتَقْتُلُونَ
رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَ قَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
مِنْ رَبِّكُمْ ) [ غافر : 28 ] حينما أراد فرعون قتل نبيِّ الله .
فإِنْ كان ما تقوم به ـ أخي السائل ـ من عمل ( و الإنسان على نفسه بصيرةٌ )
على ما ذكرت من نصرة المظلومين أو بعضهم ، أو رفع الظلم أو تخفيفه عنهم ما
استطعت ، و بانصرافك عن هذا العمل سيوسد الأمر إلى من يتربصون بالمؤمنين ،
و يريدون بهم السوء ، فأرى أنك تثاب بنيتك ، و لا حرج في بقائك في مقامك
الذي أنت فيه محتسباً ، ما لم تكن ممن يقتدى بهم ؛ كي لا يفتن بك من لا
يعرف حقيقة أمرك ، فيقوم في مثل مقامك ـ تقليداً لك ـ على خلاف ما هو سائغ
لك .
و قد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمَّن تولى جباية ما يوجبه الحكام الظلمة
من إقطاعات غير ما أوجبه الله في أموال المسلمين ، و كان بوسعه أن يخفف
بعمله ذلك الظلم ، و لا يقدر على رفعه بالكلية ، فقال رحمه الله في جوابه :
( و المقطع الذي يفعل هذا الخير يرفع عن المسلمين ما أمكنه من الظلم ، و
يدفع شر الشرير بأخذ بعض ما يطلب منهم ، فما لا يمكنه رفعه هو محسن إلى
المسلمين غير ظالم لهم ، يثاب ، و لا إثم عليه فيما يأخذه على ما ذكره ، و
لا ضمان عليه فيما أخذه ، و لا إثم عليه في الدنيا و الآخرة إذا كان
مجتهدًا في العدل والإحسان بحسب الإمكان ... فهذا المتولي المقطع الذي
يدفع بما يوجد من الوظائف ، و يصرف إلى من نسبه مستقراً على ولايته و
إقطاعه ظلماً و شراً كثيراً عن المسلمين أعظم من ذلك ، و لا يمكنه دفعه إلا
بذلك ، إذا رفع يده تولي من يقره و لا ينقص منه شيئاً ، هو مثاب على ذلك ،
و لا إثم عليه في ذلك ولا ضمان في الدنيا و الآخرة ... و كذلك الجندي
المقطع الذي يخفف الوظائف عن بلاده ، و لا يمكنه دفعها كلها ؛ لأنه يطلب
منه خيل و سلاح و نفقة لا يمكنه إقامتها إلا بأن يأخذ بعض تلك الوظائف ، و
هذا مع هذا ينفع المسلمين في الجهاد ، فإذا قيل له : لا يحل لك أن تأخذ
شيئًا من هذا، بل ارفع يدك عن هذا الإقطاع ، فتركه و أخذه من يريد الظلم ،
و لا ينفع المسلمين ؛ كان هذا القائل مخطئاً جاهلاً بحقائق الدين ، بل بقاء
الجند من الترك و العرب الذين هم خير من غيرهم ، و أنفع للمسلمين ، و أقرب
للعدل على إقطاعهم ، مع تخفيف الظلم بحسب الإمكان ، خير للمسلمين من أن
يأخذ تلك الإقطاعات من هو أقل نفعاً و أكثر ظلماً .
والمجتهد من هؤلاء المقطعين كلهم في العدل و الإحسان بحسب الإمكان ، يجزيه
الله على ما فعل من الخير ، و لا يعاقبه على ما عجز عنه ، و لا يؤاخذه بما
يأخذ و يصرف ، إذا لم يكن إلا ذلك كان ترك ذلك يوجب شراً أعظم منه ) . [
مجموع الفتاوى : 30 / 642 و ما بعدها باختصار ] .
قلتُ : و في قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ( إذا لم يكن إلا ذلك كان
ترك ذلك يوجب شراً أعظم منه ) ردٌّ للمسألة إلى القاعدة الفقهية القائلة :
إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما . و العلم عند الله
.
فاثبت أخي الكريم على ما ذكرت من الخير ، و سدِّد في عمَلك و قارب ، و اتق
الله ما استطعت ، و احرص على ما تنفع به إخوانك ، أو تخفف عنهم ، و لا تكن
عوناً لأحدٍ عليهم و إن كثرت المغريات ، فإن الزمان زمان فتنة ، و ليس
العجب ممن هلك كيف هلك ، و لكن العجب ممن نجا كيف نجا ، و الله المستعان .
هذا ، و الله أعلم و أحكم ، و ما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت و إليه
أنيب .