السؤال :
هل
لأبي الحق في منعي من الزواج ممَّن ارتضيتُ ؟ أو تحريضي على تطليق من تزوجت ؟
الجواب :
لا
يخفى على من امتنَّ الله تعالى عليه بالهداية إلى هذا الدين ما للأبوين من
مكانة في حياة المسلم ، و ما لبرهما و الإحسان إليهما من الأجر العظيم عند
ربّ العالمين ، و ما على عقوقهما من الجزاء الوخيم في الدنيا و الآخرة .
و لمَّا كان أحق الناس بحُسن صحبة المرء و صلته أبواه ؛ قَرَن تعالى الإحسان
إليهما بعبادته و توحيده في قوله : ( وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا
بِهِ شَيْئًا وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) [ النساء : 36 ] .
و قال سبحانه : ( وَ قَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَ
بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَ
قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ) [ الإسراء : 23 ] .
و أمام هذا
الحق لا مندوحة لك – أخي المسلم – عن طاعة أبيك ، فإن كان اعتراضه عليك
متقدِّمٌ على زواجك ممَّن ارتضيت دينها و خُلُقها فأطع أباك و احتسب الأجر و
الثواب عند الله تعالى على امتثال أمره ، و التمس لك زوجة أخرى فإن النساء
كُثُر ، و من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه .
أما إذا كان
الأمر بعد الزواج فلا بد من التريث قليلاً قبل الحكم في مسألة أمر الأب ابنه
بتطليق امرأته ، لما قد يترتب على هذا الأمر من التعدِّي و الظلم ، و الظلم
ظُلُماتٌ يوم القيامة .
و قد اشتهر عند أهل العلم القول بوجوب طاعة الأب في هذا الأمر ، و لهم على
ذلك ثلاث أدلّة :
أوَّلهـا :
ما في الصحيح و غيره من قصة إبراهيم عليه السلام و ولده إسماعيل ، و فيها قول
خليل الرحمن لزوجة ابنه : ( إِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ
السَّلامَ وَ قُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ ) ، فلما عاد إسماعيل
عليه السلام ، و أخبرته زوجته الخبر ، قال لها : ( ذَاكِ أَبِي وَ قَدْ َقَدْ
أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ ؛ الْحَقِي بِأَهْلِكِ ) . فَطَلَّقَهَا ، وَ
تَزَوَّجَ أُخْرَى .
و وجه الدلالة في هذا الخبر جلي ، حيث أمر الأب و امتثل الابن ، و لو لم يكن
ذلك من باب الوجوب ، فهو من باب البر و الطاعة على أقل تقدير .
و هذا مما يحتج به من شرع من قبلنا لما جاء في شرعِنا الحنيف مقرِّراً له ،
فقد روى ابن حبَّان في صحيحه و الحاكم في مستدركه بإسناد قال عنه : صحيح
الإسناد على شرط الشيخين و لم يخرجاه ، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى
عنهما – قال : كانت تحتي امرأة أحبها ، و كان عمر يكرهها. فقال عمر: طلِّقها.
فأبَيْتُ . فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم . فقال : ( أطِع أباك ، و
طلِّقها ) . فطلقتُها .
و هذا ثاني الأدلة على
وجوب طاعة الأب و امتثال أمره إذا أمر ابنه بتطليق زوجته .
و ثالثها
ما رواه ابن ماجة و الترمذي بإسنادٍ صححه ، و هو كما قال ، و ابن حبان في
صحيحه عن أبي عبدِ الرَّحمَنِ السُّلميِّ عن أبي الدَّرداءِ رضي الله عنه
أنَّ رجلاً أتاهُ فقال : إنَّ لي امرأةً و إن أمِّي تأمُرُني بطلاقِهَا فقال
أبو الدَّرداءِ : سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ و سَلَّم
يقولُ : ( الوالدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ فإن شئتَ فأضعْ ذلكَ البابَ أو
احفظْهُ ) ، هذا لفظ الترمذي ، و لم يُجزَم في رواية ابن ماجة بأنّ أمَّه هي
التي أمرته بالتطليق ، بل قال : إنّ رجلاً أمره أبوه أو أمُّه . و الحديث
أورده الشيخ الألباني في الصحيحة [ 914 ] و قال رحمه الله بعد أن ذكر تصحيحه
: ( قوله : فاحفظ ذلك الباب أو ضيِّعه ؛ لظاهر من السياق أنه قول أبي الدرداء
غير مرفوع ) .
و عليه ؛
فطاعة الأب في هذا الأمر واجبة ما لم يكن ذلك لغرضٍ دنيويٍ أو حاجةٍ في نفسِه
، فإن وُجِدَ الغَرَض آلت المسألة إلى إيقاع الظلم بالزوجة ، و هو محرم ، لا
طاعة فيه لأحدٍ ، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، و لكن الطاعة في
المعروف .
و على هذا
يحمل ما رواه ابن عبد البر [ في التمهيد : 23 / 405 ] بإسناده عن عبد الرحمن
بن القاسم عن أبيه قال : تزوَّج عبد الله بن أبي بكر الصديق عاتكةَ ابنة زيد
بن عمرو بن نفيل ، و كانت امرأةً جميلةً ، و كان يُحبُّها حُبّاً شديداً ،
فقال له أبو بكر الصديق : طَلِّق هذه المرأة ؛ فإنَّها قد شغلتك عن الغزو .
فأبى ، و قال : و من مثلي في الناس طلَّقَ مِثْلها ؟ و ما بها بأس تُطَلَّقُ
. قال : ثم خرج في بعض المغازي فجاء نعيه . فقالت فيه عاتكة :
رُزِيـتُ
بِخَيْـرِ النَّـاس بَعْـدَ نَبِـيِّـهِم *** و بعـدَ أبـي بكـرٍ و ما كان
قَصـَّـرا
فآلـيـتُ لا تَنْفَـكُّ عَـينـي حزينــةٌ *** عليـكَ و لا ينفـكُّ جِلْـدِيَ
أَغْبَـــرا
فَلِـلَّـهِ عَـيْنَـا مَــن رأى مِـثْـلَـهُ *** فتىً أعفَّ و أحصى في
الهِيَاجِ و أَصْبَرا
قلتُ :
و الشاهد من هذا الأثر أن أَمْرَ أبي بكر الصديق ابْنَهُ عبد الله بتطليق
زوجه عاتكة بنت زيد رضي الله عنهم أجمعين جاء معلَّلاً بكونها تشغله عن
الجهاد في سبيل الله ، و هو ذروة سنام الإسلام ، فجاز لأبي بكر أن يأمر بما
أمر به لذلك ، و لما انتفت العلَّة في هذا الأمر ، و خرَج عبد الله للجهاد ،
لم يعد لتطليقها مبرِّرٌ فأمسكها حتى مات عنها شهيداً في سبيل الله .
و قد سُئل
إمام أهل السنَّة أحمد بن حنبل رحمه الله عن الرجل يأمر ابنه بتطليق امرأته
فقال : إذا كان أبوك مثل عمر فطلِّقها .
فلا بد
للأبناء من بر الآباء ، و لا بد للآباء من تقوى الله فيما يأمرون به أبناءهم
، فلا يأمرون بمنكر و لا يحرِّضون على مظلمةٍ ، و ليحذَر الآمر و المؤتمِر من
تعدي حدود الله فإن ( من يتعدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه ) .
قلتُ :
و قد فرَّق بعض أهل العِلم بين الوالدين في حق الأمر بتطليق زوجة الابن ، و
وجوب طاعته في ذلك ، فقصروه على الأب دون الأم ، بعلَّة معرفة الأب بما يصلح
لابنه و ما لا يصلح أكثر من معرفة الأم بذلك ، و أن إيقاع الطلاق أصلاً لا
يكون إلا من الرجل على المرأة ، فلا ينبغي أن يكون للمرأة حق الطاعة إن أمرت
به ابنها أيضاً ، و زاد بعضهم أن الأم قد يعتريها بعض التجني ، أو شيءٌ من حظ
النفس على زوجة ابنها لما يُتصّوَّر من وقوع الغيرة بينهما ، و لذلك صاروا
إلى التفريق بين الأب و الأم في هذه المسألة .
وقد سئل
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن رجل متزوج ، و له أولاد ، و والدته
تكره الزوجة و تشير عليه بطلاقها هل يجوز له طلاقها ؟
فأجاب :
لا يحل له أن يطلقها لقول أمه ؛ بل عليه أن يبر أمه ، و ليس تطليق امرأته من
بِرِّها [ مجموع الفتاوى : 33 / 111 ] .
قلتُ :
و هذا يرده حديث أبي الدرداء رضي الله عنه فقد صُرِّح في بعض روايته بأن
الأمر كان من الأم . كما أنَّ قوله صلى الله عليه وسلَّم ( الوالد أوسط أبواب
الجنة ) يشمل الأب و الأم ، إذ إنَّ كلاً منهما والدٌ كما هو معروف في لغة
العرب .
أما إذا أمر
الأبوان أو أحدهما الابنة بمخالعة زوجها أو طلب الطلاق منه ، فلا طاعة لهما
في ذلك ، لأن ولايتها انتقلت إلى الزوج بالنكاح ، و حقُّه مقدَّم على حقِّهما
، فلا طاعة لهما في مطلب كهذا و لا ما هو دونه إذا ما أباه الزوج .
سئل شيخ
الإسلام رحمه الله عن
امرأة و زوجها مُتَّفِقَين ، و أمُّها تريد الفرقة ؛ فلم تطاوعها البنت ، فهل
عليها إثمٌ فى دعاء أمها عليها ؟
فأجاب رحمه الله:
إذا تزوجت المرأة لم يجب عليها أن تطيع أباها و لا أمها في فراق زوجها ، و لا
في زيارتهم ، بل طاعة زوجها عليها إذا لم يأمرها بمعصية الله أحق من طاعة
أبويها ، و أيما امرأة ماتت و زوجها عليها راضٍ دخلت الجنة ، و إذا كانت الأم
تريد التفريق بينها و بين زوجها فهي من جنس هاروت و ماروت ؛ لا طاعة لها في
ذلك ، و لو دعت عليها ، اللهم إلا أن يكونا مجتمعَين على معصية ، أو يكون
أمره للبنت بمعصية الله و الأم تأمرها بطاعة الله و رسوله الواجبة على كل
مسلم [ مجموع الفتاوى : 33 / 112 ] .
هذا و الله
أعلم ، و به التوفيق ، و هو الهادي إلى سواء السبيل .