تقديم
الحمد لله و
كفى و صلاةً و سلاماً على عباده الذين اصطفى ، و بعد :
ففي أوج انتشار منهج التيسير في الإفتاء ، عمَد بعض الميسِّرين إلى تكلّف
إيجاد مرجعيّة شرعيّة ، و تأصيل منهجيّة فقهيّة فجّةٍ ، تعمَد إلى ما في نصوص
الوحيين ، و كلام السابقين ، من أدلّة على أنّ الدين يُسرٌ لا مشقّةَ فيه ، و
تتذرّع بها لتبرير منهجها في إختيار أيسر المذاهب ، و الإفراط في التيسير في
الفتاوى المعاصرة ، إلى حدٍّ يبلغ حافّة الإفراط ، و يخشى على من وَقَعَ في
أن يصير إلى هاوية الانحلال من التكاليف أو بعضها ، أو القول على الله بغير
علم ، بتقديمه ما يستحسنه بين يدي الله و رسوله .
و قد تأمّلت أدلّة القوم النقليّة ، فإذا هي آيات مُحكمات ، و أخبار صحيحة
ثابتة ، غير أنّي لم أجد فيها دليلاً على ما ذهبوا إليه ، بل بعضها يدلّ على
خلاف مذهبهم ، و رأيت من المناسب بيان ما بدا لي في هذا الباب على عُجالةٍ ،
في هذه المقالة الوجيزة ، من خلال مقصِدَين و خاتمة .
المقصد
الأوّل
نصوص التيسير من الكتاب
و السنّة
استدل دعاةُ
التيسير بعموم النصوص الدالّة على أنّ التيسير و رَفع المشقّة مقصد من مقاصَد
التشريع الإسلامي ، كقوله تعالى :
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [
البقرة : 185 ] .
و غفلوا عن الآية التي قَبلَها ، و فيها رَفعُ رُخصة الفطر في رَمضان مع
الكفّارة لمن قدِرَ على الصوم ، و هو ما ثبتَ بقوله تعالى في الآية السابقة
لها : وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [
البقرة : 184 ] .
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ سَلَمَة بْن الأَكْوَع أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا
نَزَلَتْ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ،
كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِر و يَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الآيَة الَّتِي
بَعْدهَا فَنَسَخَتْهَا.
قلتُ : و هذا من قبيل النسخ بالأشد ، و هو من التشديد و ليس من التيسير ، في
شيءٍ ، فتأمّل !
و مثل ذلك استدلالهم بقوله تعالى : وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ [ الحج : 78 ] ، متغافلين عن صدر الآية ذاتها ، و هو قوله
تعالى : وَ جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ مع
أنّه لا مشقّة تفوق مشقّة الجهاد و التكليف به ، فبقي أن يُحمل رَفع الحرج
على ما رُفِعَ بنصّ الشارع الحكيم سبحانه ، لا بآراء المُيَسّرين .
و من هذا القبيل ما رواه الشيخان في صحيحيهما ، و أبو داود في سننه , و أحمد
في مسنده ، عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضى الله عنها ، قَالَتْ : ( مَا
خُيِّرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ
أَيْسَرَهُمَا ، مَا لَمْ يَأْثَمْ ، فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ
أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ ) .
و ما رواه البخاري في كتاب العلم من صحيحه ، و مسلم في الجهاد و السير عَنْ
أَنَسٍ رضي الله عنه , عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : «
يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا ، و بَشِّرُوا و لاَ تُنَفِّرُوا » .
و في روايةٍ للبخاري في كتاب الأدب : « يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا ، و
سَكِّنُوا و لاَ تُنَفِّرُوا » .
و روى مسلم و أبو داود عَنْ أَبِى مُوسَى رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي
بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ : « بَشِّرُوا و لاَ تُنَفِّرُوا و يَسِّرُوا و لاَ
تُعَسِّرُوا » .
قلتُ : جميع ما تقدّم من نصوص الوحيَين ، و كثيرٌ غيره ممّا يقرّر قيام
الشريعة الغرّاء على اليُسر و نفي الضرر ، و رفع الحَرَج ، فهِمَه الميسّرون
على غير وجهه ، و حمّلوه ما لا يحتمل ، متعنّتين في توجيهه لنُصرة شُبهَتهم
القاضيةَ بجَعل التيسير في الفتوى منهاجاً رَشَداً ، و فيما يلي نقضُ غَزلهم
، و كشف شبههم إن شاء الله :
أوّلاً :
ثمّة فرقٌ لغويٌ بين اليُسر و التيسير ، فاليُسر صفةٌ لازمةٌ للشريعة
الإسلاميّة ، و مقصدٌ من مقاصدها التشريعيّة جاء به الكتاب و السنّة ، و
أنزله النبيّ صلى الله عليه وسلم و السلفُ الصالحُ منزلَتَه ، أمّا التيسير
فهو من فِعل البشر ، و يعني جَعلَ ما ليس بميسَّرٍ في الأصل يسيراً ، و هذا
مَوطِنُ الخَلل .
ثانياً :
إن اختيار النبيّ صلى الله عليه وسلم للأيسر في كلّ أمرين خُيِّرَ بينهما ،
كما في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم فيه أربع نكات لطيفةٍ :
النكتة الأولى :
أنَّ الاختيار واقع منه صلى الله عليه وسلم فيما خُيّر فيه ، و ليس في كلّ ما
أوحيَ إليه أو كُلّف به ، هو أو أمّته ، و مثال ذلك الاختلاف في صيَغ الأذان
، و تكبيرات العيد ، و ما إليه حيث لا يعيبُ من أخَذ بهذا على من أخذَ بذاك
من العلماء ، لثبوت الروايات بالأمرين كليهما .
و الثانيّة :
تقييد التخيير بما لم يكُن إثماً ، و لا شكّ أنّ العدول عن الراجح إلى
المرجوح ، أو تعطيل ( و من باب أولى رد ) ما ثبت من الأدلّة الشرعيّة إثمٌ
يُخشى على صاحبه من الضلال ، فلا وَجه لاعتباره من التيسير المشروع في شيء .
و الثالثةُ :
أنّ التخيير المذكور في الحديث يُحمل على أمور الدنيا لا الدِّين ، و هذا ما
فهمه أهل العِلم قَبلَنا ، و قدّ أمِرنا بالردّ إليهم ، و منهم الحافظ ابن
حجر ، حيث قال رحمه الله في الفتح : ( قولُه بين أمرين : أي من أمور الدنيا.
لأن أمور الدين لا إثم فيها ... و وقوع التخيير بين ما فيه إثم و ما لا إثم
فيه من قِبَل المخلوقين واضح ، و أمَّا من قبل الله ففيه إشكال ؛ لأن التخيير
إنما يكون بين جائِزَين ) [ فتح الباري : 6 / 713 ] .
و النكتة الرابعة و
الأخيرة : أنّ هذا الخبر
ما لم يُقيّد بما سبق سيكون معارضاً باختيار النبيّ صلى الله عليه وسلم
الأشقَّ على نفسه ، كقيامه الليل حتّى تتشقق قدَماه مع أنّ الله تعالى قد
غَفَر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر . قال الحافظ في الفتح : ( لكن إذا
حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز
الأرض ما يخشى مع الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلاً ، و بين أن لا
يُؤتِيَه من الدنيا إلا الكفاف ، و إن كانت السعة أسهل منه ، و الإثم على هذا
أمر نسبي ، لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له ) [ فتح الباري : 6 /
713 ].
ثالثاً :
لا تكليف بدون مشقّة ، و إن كانت المشقّة الحاصلة بكلِّ تكليفٍ بحَسَبه ، و
هي متفاوتة ، فإذا جاز لنا تخيّر أيسر المذاهب دفعاً لكلّ مشقّةٍ ، ترتّبَ
على ذلك إسقاط كثيرٍ من التكاليف الشرعيّة ...
قال الشاطبي رحمه الله : ( المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف
عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً ) [
الموافقات : 2 / 128 ] .
و قال الإمام شمس الدين ابن القيّم رحمه الله : ( لو جاز لكل مشغول و كل
مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب و اضمحل بالكلية ) [ إعلام الموقعين 2 / 130
].
و قال أيضاً في مَعرض كلامه عن رُخَص السفَر : ( إنَّ المشقة قد عُلِّقَ بها
من التخفيف ما يناسبها ، فإن كانت مشقة مرض و ألم يُضِرُّ به جاز معها الفطر
و الصلاة قاعداً أو على جنب ، و ذلك نظير قصر العدد ، و إن كانت مشقّةَ تعبٍ
فمصالح الدنيا و الآخرة منوطةٌ بالتعب ، و لا راحة لمن لا تعب له بل على قدر
التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها و مصالحها بحمد الله و مَنِّه
) [ إعلام الموقعين 2 / 131 ] .
قلتُ : فمن آثر الراحة و الدعةَ في مقام الجدّ و النصَب ، فقد خالف الصواب ،
و غَفَل عمّا أريد منه ، و ما أنيط به ، و لو كان في البعد عن الجدّ و الجَهد
في الطاعة بدون مرخّصٍ شرعيٍ مندوحةٌٌٌ لغير ذوي الأعذار ، لما قال تعالى
لخير خلقه ، و أحبّهم إليه : ( فإِذا فَرَغْتَ فانْصَبْ ) [ الانشراح : 7 ] .
رابعاً :
ما ورد في التحذير و التنفير من التشديد و التعسير و المشاقّة و التنطّع ، و
التعمّق - و ما إلى ذلك - على النفس و الغير ، لا يدلُّ على التخيير ( أو
التخيُّر ) في الأحكام الشرعيّة ، لدلالة النصوص على التكليف بالأشدّ في
مواضع كثيرة ، و لأنّ النسخ بالأشد ممّا جاءت به الشريعة بالاتفاق ، فضلاً عن
حمل جمهور أهل العلم لنصوص النهي عن التنطّع و نحوه على ما كان فيه مجاوزة
للمشروع ، كالوصال في الصيام ، فهو ممّا نُهي عنه ، و إن كان مقدوراً عليه
بدون مشقّة ، بخلاف الصوم المشروع فلا يسقط عمّن وجَبَ عليه حتى و إن ثبتت
مشقّته ، ما دام مقدوراً عليه ، و قد تقدّم ذكر بعض أقوال أهل العلم في أنّ
الأصل في التكليف ، أنّه قائمٌ على المشقّة المقدور عليها .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله : ( التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس
بواجب ، و لا مستحب ، بمنزلة الواجب و المستحب في العبادات ، و تارةً باتخاذ
ما ليس بمُحرَّم ، و لا مكروه ، بمنزلة المحرم و المكروه في الطيبات ، و
عُلِّل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى ، شَدَّد الله عليهم لذلك
، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة ، و في هذا تنبيه على
كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لِمِثْل ما عليه النصارى من الرهبانية
المبتدعة ، و إن كان كثير من عُبَّادِنا قد وقعوا في بعض ذلك ، متأولين
معذورين ، أو غير متأولين و لا معذورين ) [ اقتضاء الصراط : 1/103 ] .
و قال ابن القيّم رحمه الله : ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في
الدين ، و ذلك بالزيادة على المشروع ، و أخبر أن تشديد العبد على نفسه هو
السبب لتشديد الله عليه ؛ إما بالقدر ، و إمَّا بالشَرْع ؛ فالتشديد بالشرع
كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل ، فيلزمه الوفاء به ، و بالقدر كفعل أهل
الوسواس ، فإنهم شدَّدوا على أنفسهم ، فشُدِّدَ عليهم القدر ، حتى استحكم ذلك
، و صار صفةً لازمة لهم ) [ إغاثة اللهفان : 1/132 ] .
و لا يقال : إنّ أحكام الشريعة تتدرّجُ من الأشدّ إلى الأيسَر ، و لا من
الأيسر إلى الأشد ، باضطراد ، لأنّها اشتملت على الأمرين معاً ، و هذه
المسألة مبسوطة في مباحث النسخ في كتب الأصول ، و الأمثلة عليها كثيرة من
الكتاب و السنّة ، و من استقرأها وقفَ على حقيقةٍ مفادها أنّ التدرّج من
الأيسر إلى الأشدّ هو الغالب في النَسخ ، و هو ما يصلحُ دليلاً على نقيض ما
ذهَب إليه دعاة التيسير ، و مؤصّلوه في هذا الزمان .
لقد جاء الشرع بالتشديد بعد الترخيص في مواضع منها ما تقدّم ذِكره من إيجاب
الصيام على كلّ مكلّّف بعد أن كان على التخيير في حق من يطيقه .
و نحو ذلك ما جاء في تحريم الخمر من التدرّج من الأيسر إلى الأشد ، حيث كان
مباحاً على الأصل ، ثمّ نزلت الآية لتفيد كراهته بالإشارة على رُبُوِّ إثمه
على نفعه ، ثمَّ حرّم أثناء الصلاة خاصّة ، ثمّ نزل تحريمه في الكتاب ، و
حدُّ شاربه في السنّة .
و كذلك الحال في تشديد حدّ الزنا من الإيذاء باللسان و اليد ، إلى حبس
الزواني في البيوت حتى يأتيهن الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلاً ، ثمّ الجلد
للبكر ( و التغريب في بعض المذاهب ) ، و الرجم للمحصن .
و نحوه ما كان من النهي عن الجهاد في أوّل الأمر ، ثمّ الإذن فيه ، ثم إيجابه
على غير ذوي الأعذار بعد الهجرة .
و الأمثلة غير ما ذكرنا على أن الشرع الحنيف جاء بالتدرّج في التشريع من
الأيسر إلى الأشدّ كثيرة ، و لو أردنا تتبُّعَها ، وذِكرَ أدلّتها و ما
يتفرّع عنها من مسائل و أحكام ، لطال بنا المقام ، قبل أن نصير إلى التمام
(1) .
و هذا يدلّ على نقيض ما تذرّع به الميسِّرون ، يسَّر الله لنا و لهم سُبُلَ
الهدى ، و وقانا مضلات الهوى و موارد الردى .
فإذا أضيف إليه ما قرّرناه آنِفاً ، من بُطلان استدلالهم بنصوص الوحيين على
الجنوح إلى التيسير على وجه التخيير ، ظهر لنا الحق الصريح ، و هو إغلاق باب
الاجتهاد في مورد النص الصحيح ، و وجوب الردّ إلى الله تعالى و رسوله على وجه
التسليم و القبول ، و الله أعلَم و أحكَم .
المقصِِِد
الثاني
أقوال السلف في اختيار
أيسَر المذاهب
تذرّع دعاة
التيسير في العصر الحديث بما روي عن السلف و الأئمة المتّبعين بإحسان ، من
استحباب الأخذ بالرُخص .
و من ذلك ، قول قتادة رحمه الله : ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) [
انظره في : تحفة المولود ، ص : 8 ] .
و قول سفيان الثوري رحمه الله : ( إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما
التشديد فيُحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] .
و قول شيخ الإسلام ابن تيميّة : ( إذا فعل المؤمن ما أُبيح له قاصداً العدول
عن الحرام لحاجته إليه فإنّه يثاب على ذلك ) [ مجموع الفتاوى : 7 / 48 ] .
و قول ابن القيّم : ( الرخص في العبادات أفضل من الشدائد ) [ شرح العمدة : 2
/ 541 ] .
و قول الكمال بن الهمّام في التحرير : ( إنّ المقلّد له أن يقلّد من يشاء ، و
إن أخذ العاميّ في كلّ مسألة بقول مجتهد أخفّ عليه ، لا أدري ما يمنعه من
النقل أو العقل .
و كون الإنسان يتتبّع ما هو الأخفّ عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ، ما
علمت من الشرع ذمّه عليه ، و كان صلى الله عليه وسلّم يحبّ ما خفّف عن أمّته
) .
و قول الشاطبي : ( المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود
الوسط فيما يليق بالجمهور ، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ، و لا يميل إلى طرف
الانحلال ، و الدليل على صحة هذا أنَّه الصراط المستقيم ، الذي جاءت به
الشريعة ، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف ، الحملُ على التوسط من غير
إفراطٍ و لا تفريطٍ ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ، و
لذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين ) [ الموافقات
: 4 / 285 ] .
إلى غير ذلك ممّا وقفوا عليه فاحتجّوا به ، أو غاب عنهم فأغفلوه .
و لو تأمّلنا ما أوردناه ( و لا أعلَم لهم استدلالاً بغيره من أقوال الأئمّة
) لما رأينا فيه دليلاً على التيسير الذي يُدندنُ حَوله المعاصرون ، فقتادةُ
يدعوا إلى الترخّص حيث شرع الله الرخصة ، فيقول : ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب
الله لكم ) ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) ( ابتغوا الرخصة التي
كَتَب الله لكم ) ، و لا يقول : رخِّصوا باستحسانكم ، أو لمجرّد التخفيف عن
العباد أو مسايرتهم .
و ابن تيميّة يذكر الاستغناء بالحلال عن الحرام ، و ليس الإفتاء بعدَم حُرمةِ
الحرَام أصلاً ، أو اختيار قول من يعدل عن التحريم إلى التحليل أو مجرّد
الكراهة ، و إن ضَعُفَت حُجّته ، و وَهت شُبهته .
أمّا ابن القيّم فكلامه في الرخص في العبادات ، و هذا لا خلاف فيه ، خلافاً
لدُعاة التيسير الذين وقعوا في تحليل الحرام ، و نفي الكراهة عن المكروه ، و
شتّان ما بين المذهبين .
و ما يُروى عن سفيان رَحمه الله لا يؤخذ منه الترخيص بإسقاط الواجب ، أو
تحليل المحرّم ، و لكنّه موجّه إلى ما ينبغي أن يفتيَ به العالم من وَقع في
حرَج متيقّن ليعينه على القيام بما وَجَبَ عليه ، لا ليُسقِطه عنه ، و ذلك
كثيراً ما يَقَع في باب الكفّارات ، و أداء النذور و نحوها .
و ما روي عن ابن عيينة ، قال به غيره ، و لكنّهم تحوّطوا في ضبط صوَره
بالتمثيل له .
قال النووي : ( و أما من صحَّ قصدُه , فاحتَسَبَ في طلب حيلةٍ لا شُبهةَ فيها
, لتخليصٍ من ورطة يمينٍ و نحوها , فذلك حسن جميل ، و عليه يُحمل ما جاء عن
بعض السلف من نحو هذا , كقول سفيان : إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة ,
فأما التشديد فيُحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] .
و ننبّه هنا إلى أنّ ما رويَ عن السلف الصالح ، في الحث على التمسّك بالعزائم
، و التحذير من الترخّص المجرّد عن الدليل ، أضعاف ما روي عنهم في التيسير و
الترخيص ، و العدل أن يُجمَع بين أقوالهم ، لا أن يُسقَط بعضها ، أو يُضرَبَ
بعضُها ببَعضٍ .
و ربّما اتّضحت الصورة أكثر إذا قرّبناها بالتمثيل لما كان عليه سلفنا الصالح
رضوان الله عليهم أجمعين ، فإذا رَجَعنا إلى سيَرِهِم وقفنا على معالم منهجهم
في التشديد و التيسير على النفس و الغير ، و من أبرز تلك المعالم :
أوّلاً :
تشديد العالم على نفسه أكثر ممّا يشدد على غيره .
و لهذا المَعلَم ما يشهد له من السنّة ، حيث أرشَد إليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم إليه معاذ بنَ جبل رضي الله عنه ، حين أمرَه بالإيجاز إذا أمَّ
الناسَ في الصلاة ، و يقتضي هذا الترخيص له في الإطالة إذا صلى فذاً ، كما في
الصحيحين و غيرهما .
ثانياً :
عُرِف عن السلف الصالح ، من الصحابةِ الكرام و من بَعدَهُم التشديد على الناس
فيما تساهلوا فيه ، و هذا خلاف ما عليه ميسِّرة العصر ، من التيسير فيما كثُر
وقوع الناس فيه .
و من ذلك قول عمر الفاروق رضي الله عنه : ( فلو أمضيناه عليهم ) حينما حكمَ
بإيقاع طلاق المجلس ثلاثاً ، و أمضاه على الناس ، لأنّهم استعجلوا بعد أن
كانت لهم فيه أناة .
و كذلك تضمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للصنّاع ، بعد أن
فسدت الذمم و تغيرت النفوس .
ألا ترى أنّ عمرَ و عليَّ رضي الله عنهما قد بالغا في التشديد في هاتين
المسألتين ، استحساناً ، رغم وجود ما يراه الميسِّرون المعاصرون مقتضياً
للتيسير ، و مستلزماً للتخفيف مراعاةً ظروف المجتمع ، و رفعاً للحَرَج عن
الناس .
ثالثاً :
أنّ من السلف من كان يفتي بالفتوى ، أو يقضي بالقضاء ، ثمّ يرجع عنه إذا بلغه
ما هو أقوى منه دليلاً و أقوَم سبيلاً ، إذ إنّ العبرة عنهم بما جاء من عند
الله ، و ثبت عن رسول الله ، و ليس بالتيسير أو التشديد .
أخرج مسلم في كتاب الحج من صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : ( أنه
كان يفتي بالمتعة فقال له رجُل : رويدك بعض فتياك ، فإنك لا تدري ما أحدث
أمير المؤمنين في النسك بعدك ، فقال : يا أيها الناس : من كنا قد أفتيناه
فتيا فليتئد ، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فأتموا ، قال : فقدم عمر ، فذكرت
ذلك له ، فقال : أن تأخذ بكتاب الله فإن الله تعالى قال : وَ أَتِمُّوُا
الحَجَّ و العُمْرَةَ لله [ البقرة: 196 ] ، و أن تأخذ بسنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى نحر الهدي ) .
و الأمثلة غير هذا في رجوعهم إلى الحقّ كثيرة ، فهل في دعاة اليوم من يلزم
غرزَ السابقين ، و ينحو نحوَهُم ، فيقف عند الدليل ، و يرجع إليه إن بلغه ، و
لو بعد حين ، و لا يجد غضاضةً في أن يقول : ( تلك على ما قضينا ، و هذه على
ما نقضي ) ؟
رابعاً :
كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يدورون مع الدليل حيثُ دارَ ، فمنهم
الميسِّر و منهم المشدد ، و لكن عن علم و بصيرة و دليل .
و كلُّهُم مِنْ رسولِ اللهِ مُقْتَبِـسٌ *** غرفاً مِنَ البَحرِ أو رَشْفاً
مِنَ الدِيَمِ
و إن كان فيهم من يلتزم في عمله الأحوط في مقابل من يجنح إلى الأيسر ، و لكنّ
الحامل لكلٍّ منهما على مذهبه لا يخرج عن الاستدلال بما ثبت عنده عن نبيِّ
الهُدى صلى الله عليه وسلم .
و يحسن التمثيل لاختلاف آراء الصحابة في هذا الأمر بما كان عليه الصاحبان
الإمامان : عبد الله بن عبّاس ، و عبد الله بن عمر رضي الله عنهم ، فقد كان (
أحدهما يميل إلى التشديد و الآخر إلى الترخيص و ذلك في غير مسألة ، و عبد
الله بن عمر كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة فكان يغسل
داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك ، و كان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماء
جديد ، و كان يمنع من دخول الحمام ، و كان إذا دخله اغتسل منه ، و ابن عباس
كان يدخل الحمام ، و كان ابن عمر يتيمم بضربتين ضربةٍ للوجه ، و ضربةٍ لليدين
إلى المرفقين ، و لا يقتصر على ضربة واحدة ، و لا على الكفين ، و كان ابن
عباس يخالفه ، و يقول : التيمم ضربةٌ للوجه ، و الكفين ، و كان ابن عمر يتوضأ
من قُبلةِ امرأتِه ، و يُفتي بذلك ، و كان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى ، و
كان ابن عباس يقول : ما أبالي قبَّلتُها أو شممت ريحاناً ، و كان يأمر من ذكر
أن عليه صلاة و هو في أخرى أن يُتِمَّها ، ثم يصلي الصلاة التي ذكرها ، ثم
يعيد الصلاة التي كان فيها... و المقصود أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق
التشديد و الاحتياط ) [ زاد المعاد : 2 / 47 و 48 ] .
قلتُ : و مع كلِّ ما كان يذهب إليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من
التشديد و لزوم الأحوَط ، لم يغمز قناته أحدٌ من السلف أو الخلف ، و لم يصمه
أحدٌ بوصمة التعسير ، على وجه التخطئة و التنفير ، بل غاية ما ذَهَبَ إليه
مخالفوه هو عدَم موافقته في تشديداته ، مع اعتبارها أمارةً على وَرَعه و حُسن
اتّباعه ، و عُذر مَن ذهبَ مذهبَه من الأتباع ما داموا يدورون مع الدليل
مدارَه .
و لم يكن يسعهم حتى تمني خلافه فضلاً عن تبريره أو تسويغ القول و العمل به .
قال أبو عبد الله الزركشي [ في المنثور : 1 / 20 ، 21 ] و هو يُعدِّدُ أنواع
التمني و يعرض حكم الشرع في كلٍّ منها : السابع : تمني خلاف الأحكام الشرعية
لمجرد التشهي ... قال الإمام الشافعي في ( الأم ) و قد روى عن عمر : ( لا
يُسترق عربي ) قال الشافعي رحمه الله : لولا أنَّا نأثم بالتمني لتمنينا أن
يكون هذا هكذا ، و كأنه أراد تغير الأحكام و لم يرد أن التمني كله حرام ) .
قلت : فلله درّهم ما أبرَّهم ، و ما أنبلهم حيث لا يسوّغون مجرّد كون الحرام
حلالاً ، فضلاً عن تسويغه ، و الإفتاء بحلّه ، و لو كان بليّ أعناق النصوص ،
و حشد الشواهد و الشواذ من كلّ رطبٍ و يابِسٍ ، من زلاّت المتقدّمين ، و
هفولت المتأخّرين ، و سقطات المُتابِعين .
إنّها و الله الخشية من العَبدِ للمعبود ، فمن أو تِيَها فقد أوتِيَ خيراً
كثيراً ، و هل العِلمُ إلاّ الخشية ، و ما مثل من كثر عِلمُه و قلّت خشيته
إلا كمثل التاجر المدين ، تكثر بين يديه العروض ، ليس له منها شيء .
خاتمة
و بعد ، فقد
آل بنا البحث عند ختامه إلى الحديث عن الخشية ، و هي جماع صفاة العالم
الرباني ، تسوقه إلى الحقّ ، و تأطُرُه عليه أطراً .
قال صاحب الآداب الشرعيّة : ( و نقل المروزي عن أحمد أنه قيل له : لمن نسأل
بعدك ؟ فقال: لعبد الوهاب يعني الوراق ، فقيل إنه ضيق العلم فقال : رجل صالح
مثله يوفق لإصابة الحق .... و قال الأوزاعي كنا نمزح و نضحك ، فلما صرنا
يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم ... و روى ابن بطة عن عمر أنه كتب إلى أبي
موسى : إن الفقه ليس بسعة الهذر و كثرة الرواية إنما الفقه خشية الله ... و
قال الأوزاعي : بلغني أنه يقال : ويل للمتفقهين لغير العبادة , والمستحلين
المحرمات بالشبهات ... و قال الشافعي رضي الله عنه : زينة العلم الورع و
الحلم ، و قال أيضا لا يجْمُل العلم ، و لا يحسن إلا بثلاث خلال : تقوى الله
, و إصابة السنة , و الخشية ) .
فما أحرى العاملين للإسلام ؛ دعاةً و فقهاء و مُفتين إن يقفوا على الحقّ ، و
يقولوا به ، و يردّوا عِلمَ ما اختُلِفَ فيه إلى عالمه .
لتكون السبيل محجّةً بيضاء ؛ كتاباً و سنةً ، مع سلامةٍ في الصدر و المنهج .
ففي ذلك السلامة ، و النجاة من الندامة ، و هذا غاية ما أردت بيانه في رسالتي
هذه ، باذلاً في طلب الحق و تقريبه للخلق وسعي ، فإن أصبت فذلك فضل الله
يؤتيه من يشاء ، و إن أخطأتُ فمِن نفسي و من الشيطان ، و اللهَ تعالى أسألُ
أن يغفر زلّتي ، و يقيل عثرتي .
و أفوّض
أمري إلى الله ، إنّ الله بصير بالعباد
و الحمد لله ربّ العالمين
و صلّى الله و سلّم على نبيّنا محمّد ، و آله ، و صحبه أجمعين
--------------------
(1)
كان التدرّج في التشريع في زمن الوحي ، و انقطع بانقطاعه ، حيث أكمَلَّ الله
دينه ، و أتمّ على عباده نعمته ، فقال : ( اليوم أكملتُ لكم دينكم و أتممت
عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً ) فليس لأحد بعد ذلك أن يجاري الشارع
الحكيم سبحانه في التدرّج في تبليغ حكم الله تعالى ، و حُكمِ رسولِه لحديثي
العهد بالإسلام أو التوبة ، إذ إنّ الأحكام قد استقرّت على ما قضى الله و
رسوله ، و بالله العصمة .