الحمد لله عظيم المنن ، دافع النقم و المِحَن ، ذي الفضل و النعماء على من
آمن به و تولاه ، و ذي العزة و الجبروت و البأس الشديد على من حادَّه أو
عاداه .
و صلى الله و سلم و بارك على نبينا محمد و آله و صحبه و من والاه ، ثم أما
بعد .
فإن الله تعالى مذ خلقنا و كرمنا و فضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً لم يتركنا
هملاً نهيم على وجوهنا دون أن يبين لنا سبل الرشاد ، بل بعث فينا نبيه
المصطفى صلى الله عليه و سلم بما يصلح العباد و البلاد ، و يسوس الدنيا و
أهلها إلى يوم المعاد ، فتوفي عليه الصلاة و السلام و ما من خير إلا و دلنا
عليه ، و لا شر إلا حذَّرنا منه ، و أخذ بحُجَزِنا يصرفنا عنه ، و لا علم
ينفع في دينٍ أو دنيا إلا أوقفنا عليه .
و لحق رسول الله صلى الله عليه و سلم بربه و ما من طائر يقلِّبُ جناحيه ، في
السماء إلا و قد ذكر لأصحابه منه علماً ، كما روى الطبراني في معجمه الكبير
عن أبي الدرداء و أبي ذرٍّ رضي الله عنهما .
فهل يظن عاقل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد عرف ما ستؤول إليه أمور
أمته من بعده و أخبر به و بالغ في بيانه ، و ذِكْرِ أشراطه ، و التحذيرِ من
أشراره ، يدعنا و شأننا في مجابهة المحن ، و مواجهة الفتن ، دون أن يبين لنا
في ذلك سبيلاً رشَداً ، فيأتينا العقلاء منه بقبسٍ أو يجدوا في شرعِه هدى ؟!
كلا و الله ! ما كان الأمر كذلك ، و ما ينبغي له أن يكون ، فقد علَّمنا من لا
ينطق عن الهوى كيف نعامل الأمراء في كل حال ، فقال في موعظته التي ذرفت لها
العيون و وجلت منها القلوب : ( عليكم بتقوى اللّه ، و السمع و الطاعة ، و إن
عبداً حبشياً ) ، رواه ابن ماجة و غيره بإسنادٍ صحيح عن العرباض بن سارية رضي
الله عنه .
و روى الشيخان عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، أنه قال : دَعَانَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ ، فكان فِيمَا
أَخَذَ عَلَيْنَا : أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، فِي
مَنْشَطِنَا وَ مَكْرَهِنَا ، وَ عُسْرِنَا وَ يُسْرِنَا وَ أَثَرَةٍ
عَلَيْنَا ، وَ أَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ ، إِلا أَنْ تَرَوْا
كُفْراً بَوَاحاً ، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ ) .
فقيَّد صلى الله عليه و سلَّم منازعة الأمر – الحُكمَ – أهله ، بظهور الكفر
البواح من المنازَع .
و ههنا مسائل يحسن التنبيه إليها بين يدي هذا الحديث الشريف :
أُولاها :
التفريق بين إنكار المنكر و بين الخروج على الحاكم ، إذ ليس كل من أنكر
منكراً على حاكم ذي سلطة ( شرعية أو غير شرعية ) خارجاً عليه بمجرد الإنكار
فضلاً عن أن يكون خارجي المنهج و الفكر و المذهب ، كما يصوره البعض ، لأن
الأمَّة مازالت تنكر على حكامها و ولاة أمورها سرّاً و جهراً ، بحسب الإمكان
، و ما يقتضيه الحال ، و لم نقف في تاريخنا المديد على من اتُّهم بالخروج ،
أو نسب إلى الخروج أصلاً ، فضلاً عن أن ينسب إلى الخوارج ( كطائفة ) لمجرد
إنكار المنكر – علانيةً - على الحاكم ، و دعوته إلى العدل و الإنصاف و ردِّ
المظالم و إحقاق الحق .
و يشهد لهذا تبويب الإمام مسلم في صحيحه بما يؤكد على التفريق بين الإنكار
الواجب و الخروج المحرم بقوله : بَابُ وُجُوبِ الإِنْكَارِ عَلَى الأُمَرَاءِ
فِيمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ ، وَ تَرْكِ قِتَالِهِمْ .اهـ .
و ما رواه ابن ماجة في سننه بإسنادٍ صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ،
قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان
جائر ) ، و في رواية : ( كلمة حقًّ ) .
و ما صح في سننه أيضاً من حديث أبي أمامة رضي الله عنه ، أنه قال : عرض لرسول
الله صلى الله عليه و سلم رجلٌ عند الجمرة الأولى ، فقال : يا رسول الله أيُّ
الجهاد أفضل ؟ فسكت عنه . فلما رمى الجمرة الثانية سأله ، فسكت عنه . فلما
رمى جمرة العقبة وضَعَ رِجْلَه في الغَرْز ليَركب ، قال : ( أين السائل ؟ )
قال : أنا يا رسول الله . قال : ( كلمة حق عند ذي سلطان جائر ) .
قلتُ : لو كان إنكار المنكر على السلطان الجائر منكَراً ، لما كان القيام به
أفضل الجهاد في سبيل الله ! و لما جعل من قُتِل دون ذلك في مقام سيِّد
الشهداء ، كما صح بذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلَّم إذ قال : ( سيد
الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، و رجلٌ قام إلى إمام جائر فأمره و نهاه فقتله )
رواه الحاكم في مستدركه عن جابر بإسناد صحَّحه ، و أقرَّه الذهبي .
و ثانيها :
أن تقييد الإنكار بالإشهار أو الإسرار أمر تحكمه مقاصد الشريعة ، و يجب ضبطه
بضوابطها ، و ينظر إليه من خلال المصالح المترتبة على القيام به ، و المفاسد
المترتبة على تركه ، و هذا يختلف بحسب الأمور المنكرة ، و حال المنكِر ، و
المنكَر عليه ، و أسلوب الإنكار ، لذلك رأينا أئمة السلف ينكرون المنكر على
الحاكم علانية تارةً ، و خفيةً تاراتٍ أُخَر ، فيما بينهم و بين الحاكم ، دون
أن يتحجَّر أحدهم واسعاً ، أو يحمل الناس على رأيه مكرَهين .
و قد اشتهر من الإسرار في الإنكار موقف أسامة بن زيد من عثمان بن عفان رضي
الله عنهم و عن سائر الصحابة الكرام ، حيث كان يتخوله بالموعظة و النصيحة
سراً .
فعَنْ شَقِيقٍ بن سلمة ، عَنْ أُسَامَةَ بن زيد ، قَالَ : قِيلَ لَهُ : أَلا
تَدْخُلُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَتُكَلِّمَهُ ، يَعْنُونَ عُثْمَانَ ،
فَيَقُولُ : أَتَرَوْنَ أَنِّي لا أُكَلِّمُهُ إِلا أُسْمِعُكُمْ ، وَ
اللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي وَ بَيْنَهُ مَا دُونَ أَنْ
أَفْتَتِحَ أَمْرًا لا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يَفْتَحُهُ ، وَ لا
أَقُولُ لأَحَدٍ يَكُونُ عَلَيَّ أَمِيراً إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَمَا
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ : (
يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ ،
فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ فِي
الرَّحَى ، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ : مَا لَكَ ؟
أَلَمْ تَكُ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَ تَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ؟
فَيَقُولُ : بَلَى ، كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ ، وَ أَنْهَى
عَنِ الْمُنْكَرِ وَ آتِيهِ ) ، رواه أحمد و أصله في صحيح البخاري .
قال القاضي عياض رحمه الله [ كما في فتح الباري : 13 / 57 ] : ( مراد أسامة
أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك ، بل
يتلطف به ، و ينصحه سراً فذلك أجدر بالقبول ) .
و هذا منهج مبرئٌ لذمة من يقدر على الوصول إلى الأمير أو الوقوف بين يديه
ليأمره بالمعروف و ينهاه عن المنكر ، و لكن ليت شعري كيف تبرأ ذمة من لا يملك
حيلة و لا يستطيع سبيلاً إلى الإنكار إلا من وراء جُدُرٍ ، إن لم يبذل وُسعَه
في قول الحق و العمل به و لو عن بُعدٍ ؟
و معاذ الله أن نبرر الإنكار علانية أو ندعو إليه مع إمكانية تحقيق الغاية
المرجوة من الإنكار بين العالم و الحاكم .
أخرج الإمام أحمد في مسنده عن سعيد بن جهمان قال : ( أتيت عبد الله بن أبي
أوفى ، و هو محجوب بالبصرة ، فسلمت عليه . قال لي : من أنت ؟ فقلت : أنا سعيد
بن جهمان . قال : فما فعل والدك ؟ قال : قلت : قتلته الأزارقة . قال : لعن
الله الأزارقة لعن الله الأزارقة ، حدثنا رسول الله أنهم كلاب النار . قال :
قلت : الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها ؟ قال : بل الخوارج كلها . قال : قلت :
فإن السلطان يظلم الناس و يفعل بهم . قال فتناول يدي ، فغمزها بيده غمزةً
شديدة ، ثم قال : ويحك يا ابن جهمان ، عليك بالسواد الأعظم ، عليك بالسواد
الأعظم ، إن كان السلطان يسمع منك فأته في بيته ، فأخبره بما تعلم ، فإن قبل
منك ، و إلا فدعه ؛ فإنك لست بأعلم منه ) .
و هذا مقيد بقول عبد الله بن أبي أوفى صراحةً : إن كان السلطان يسمع منك .
قلتُ : أما إن تترس الأمير بحاشية السوء ، و لم يمكن إيصال الحق إليه ، فلا
أقل من تبصير العامة بضررٍ لا يدفع بأقل من العلم به .
و ثالثها :
أنَّ حمل معنى الكفر البواح على الخروج من الملة بالكفر الأكبر دون غيره من
كبائر المعاصي و فواحش الذنوب ، أمر يسوغ فيه الخلاف ، بل قد وقع الخلاف فيه
يقيناً ، بذهاب بعض العلماء إلى تأويل الكفر البواح بالمعاصي ، كما فعل
الإمام النووي رحمه الله إذ قال في شرحه لصحيح مسلم [ 12 / 229 ] :
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : ( إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْراً
بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ ) هكذا هو لمعظم الرُّواة .
و في معظم النُّسخ : بواحاً بالواو . و في بعضها : براحاً ، و الباء مفتوحة
فيهما . و معناهما: كفراً ظاهراً ، و المراد بالكفر هنا : المعاصي . و معنى (
عندكم من اللهِ فيه برهان ) أي : تعلمونه من دين اللهِ .
و معنى الحديث : لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ، و لا تعترضوا عليهم ؛
إلاَّ أن تروا منهم منكراً محقَّقاً تعلمونه من قواعد الإسلام ، فإذا رأيتم
ذلك فأنكروه عليهم ، و قولوا بالحقِّ حيث ما كنتم ، و أمَّا الخروج عليهم و
قتالهم فحرام بإجماع المسلمين ، و إن كانوا فسقة ظالمين ، و قد تظاهرت
الأحاديث بمعنى ما ذكرته ، و أجمع أهل السُّنَّة أنَّه لا ينعزل السُّلطان
بالفسق ) .
فتأمل وفقك الله لهداه كيف ذهب الإمام النووي رحمه الله إلى تأويل الكفر
البواح بالمعاصي ، و لم يحمله على الكفر المخرج من الملة ، فضلاً عن أن يقصره
عليه ، و لم يرَ بأساً في منازعة ولاة الأمر و الاعتراض عليهم حال وقوعهم في
المعاصي و المنكرات المحققة المعروفة بما يُعلَم من قواعد الإسلام ، شريطة أن
لا يكون ذلك بالسيف ما لم يُتيقَّن خروج الحاكم من الملة بالكُليَّة .
و مع ذلك فقد نقل [ في شرح صحيح مسلم أيضاً 2 / 26 ] عن إمام الحرمين رحمه
الله القول بمشروعية التواطؤ لخلع الإمام الفاسق بما هو أقل من الكفر و إن
استلزم ذلك إشهار السلاح في وجهه و محاربته ، حيث قال : ( قال إمام الحرمين
رحمه الله: و إذا جار والي الوقت و ظهر ظلمه و غشمه و لم ينزجر حين زُجِرَ عن
سوء صنيعه بالقول ، فلأهل الحلِّ و العقد التَّواطؤ على خلعه ، و لو بشهر
الأسلحة و نصب الحروب ، هذا كلام إمام الحرمين ، و هذا الَّذي ذكره من خلعه
غريب ، و مع هذا فهو محمول على ما إذا لم يخف منه إثارة مفسدة أعظم منه ) .
فاتق الله في يا من يعيب على إخوانه القيام بما هو أدنى مما ذهب إليه إمام
الحرمين و أقره عليه النووي بشرطه المذكور ، و ارأف بإخوانك الذين ينكرون
منكراً قعدت عن إنكاره ، و لولا ما حملوه عنك من القيام بالواجب الكفائي لكنت
من الآثمين ، فادع لهم ، و احفظ ظهورهم ، و لا تكن عوناً للظالمين عليهم .
و حذار من أن تتوهم في كلامنا هذا تحريضاً على ارتكاب أعلى المفسدتين مع
إمكانية تحاشيهما أو الاكتفاء بارتكاب أدناهما ، لأن الدعوة إلى إنكار المنكر
على الحاكم المسلم علانية خلافُ الأصل الذي ندعو إليه ، و نحتسب الأجر عليه .
إذ إن الإنكار على الحاكم المسلم سراً هو الأصل ما دام ذلك كافياً و كفيلاً
لإحقاق الحق و دفع المنكر بأقل منه .
أما إن تعذر ذلك و خُشيَ من تفشي المنكر ، و شيوع الفاحشة في الذين آمنوا
فيعدل عن هذا الأصل إلى ما لا يتم الواجب إلا به ، و من ذلك الإنكار علانية
علَّ ذلك يبلغ من كان له قلبٌ أو ألقى السمع و هو شهيد ، فيبذل وسعه ، و يبرئ
ذمَّته في التصدي للمنكر و أهله قبل فوات الأوان ، و يكون ذلك في حالات منها
:
الحالة الأولى :
إذا شهد العالم وقوع المنكر أو وافق حضور الوالي المتلبس به ، فيجب الإنكار
في الحال ، و لا يسعه تأخيره عن وقت الحاجة لبيانه .
و مثال ذلك ما عرف من إنكار أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، و غيره على مروان
بن الحكم تقديم خطبتي العيد على الصلاة ، خلافاً للسنَّة الثابتة عن النبي
صلى الله عليه و سلم .
فقد روى مسلم في صحيحه بإسناده عن طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ
بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلاَةِ مَرْوانُ ، فَقَامَ
إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : الصَّلاَةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ؟ فَقَالَ مروان :
قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ . فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ
قَضَى مَا عَلَيْهِ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ
سَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ
) الحديث .
الحالة الثانية :
إذا غلب على الظن تعالي الحاكم على الحق و أهله ، و تطاوله على من يأمره و
ينهاه بسيفه و بطشه ، فعندئذ يجد الداعية مندوحة من المواجهة مع من لا يتورع
عن إراقة دماء مخالفيه و معارضيه ( بالحق ) ، فيعدل إلى إنكار المنكر بما
تيسر من وسائل أُخَر ، و أقلها تحذير العباد من المنكر الذي يقره الحاكم و لا
ينكره .
روى ابن ماجة في سننه بإسناد حسن عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه
و سلم ( لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ) قالوا : و كيف يذل نفسه ؟ قال : (
يتعرض من البلاء لما لا يطيقه ) .
و روى ابن سعدٍ في طبقاته عن عمارة بن مهران ، قال : قيل للحسن : أَلا
تَدْخُلُ عَلَى الأمَرَاءِ ، فَتَأْمُرَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَ تَنْهَاهُمْ
عَنِ الْمُنْكَرِ ؟ قَالَ : ( لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ ،
إِنَّ سُيُوفَهُمْ لَتَسْبِقُ أَلْسِنَتَنَا ، إِذَا تَكَلَّمْنَا قَالُوا
بِسُيُوفِهِمْ هَكَذَا ، وَ وَصَفَ لَنَا بِيَدِهِ ضَرْباً ) .
و لا يستفاد من هذا أن الحسن ، ترك الأمراء و شأنهم فلم يأمرهم و لم ينهَهم ،
و حاشاه من ذلك و هو الغيور على دين الله ، الذي لا يخاف فيه لومة لائم ، و
لكنه لم ينكر منكرهم في مجالسهم دفعاً لمفسدة أكبر ، و لم يعدِم وسيلةً أخرى
لإحقاق الحق و الأمر به ، و إبطال المنكر و النهي عنه ، كما يبدو ، و الله
أعلم .
الحالة الثالثة :
إذا كان المنكر الواجب إنكاره يبلغ في ضرره و شرِّه عموم الأمة ، و لا يقتصر
في ذلك على الحاكم العاصي أو خاصته ، فهذا لا بد من أن يحذَّر منه كل من قد
يقع فيه ، أو يلتبس عليه أمره ، أو يتضرر به ، و من هذا القبيل إسقاط الجهاد
حال كونه فرضاً متعيناً على المسلمين كما هو الحال اليوم في بيت المقدس و
أكناف بيت المقدس ، فلو قدِّرَ أن حاكماً دعا إلى وضع الحرب مع العدو ، و
تنازل عن الحَرَم و الحُرُمات ، و الديار و المقدَّسات ، فقد أتى منكراً
جسيماً يجب إنكاره عليه ، و تبصير الأمة بخطره كي لا تموت فيهم الغيرة على
الدين ، و العزيمة على مجاهدة المعتدين .
و مثل ذلك التحذيرُ من المنكرات السارية كالتعامل بالربا ، و إشاعة الفواحش ،
و سائر ما يعم شره ، و لا يؤمن الوقوع فيه ، و من أخطر ذلك ما تبثه وسائل
الإعلام و الإجرام من لوثات العقول و الأفكار و السلوك و الأخلاق ، فهذه و
أمثالها أمور يجب على القادر أن ينكرها على الحكام ، و يحذِّر من خطرها
المحكومين ، نصيحة لله و لرسوله و لعامة المسلمين و خاصتهم .
و لا تبرأ الذمة في هذه الأحوال بمجرد الهمس في أذن الحاكم بوجود هذه
المنكرات ، إن لم يفض ذلك إلى تغييرها ، و يعصم المسلمين من الوقوع في شرورها
، بل لا بد من إنكارها علناً ، و بيان مفاسدها و مخاطرها على رؤوس الأشهاد ،
ليهلك من هلك عن بيِّنة و يحيى من حيَّ عن بيِّنة .
روى الحاكم في مستدركه أن أميراً من أمراء الكوفة دعا ساحراً يلعب بين يدي
الناس ، فبلغ جندباً ، فأقبل بسيفه و اشتمل عليه ، فلما رآه ضربه بسيفه فتفرق
الناس عنه ، فقال : أيها الناس ، لن تُراعوا إنما أردت الساحر ، فأخذه الأمير
فحبسه ، فبلغ ذلك سلمان ، فقال : ( بئس ما صنعا لم يكن ينبغي لهذا و هو إمام
يؤتم به يدعو ساحراً يلعب بين يديه ، و لا ينبغي لهذا أن يعاتب أميره بالسيف
) .
و يظهر من سياق هذا الخبر أنَّ تغيير المنكر بالسيف كان لعموم شرِّه و خطره ،
حيث كان الساحر يلعب بين يدي الناس ، و هذه فتنة ظاهرة يتعين إنكارها و دفعها
، و هذا ما أقدم عليه جندب بعد أن بيَّن للناس أنَّه ما خرج ليريعهم ، بل خرج
ليقيهم الفتنة بسيفه ، و هذا اجتهاد منه ، أنكر عليه سلمان خروجه بالسيف فيه
، و لم ينكر عليه مجرد مخالفة الحاكم أو اعتراض سبيل الساحر الفتان ، و الله
أعلم .
الحالة الرابعة :
إذا بلغه أن الحاكم قضى قضاءً ، أو أمر أمراً يخالف كتاب الله و سنَّة رسوله
، فيجب إنكار المنكر حينما يبلغه ، إذا بلغه من ثقةٍ ، و لا يجوز له الكف عن
الإنكار أو التوقف فيه ، أو إرجاؤه إلى حين لقاء الأمير ، لأن تأخير البيان
عن وقت الحاجة لا يجوز ، و لو سكت العالم عن المنكر لحظة سماعه به أو بلوغه
إيَّاه لأوهم إقراره له ، خاصَّةً إذا كان عالماً يُتَّبَع ، و إماماً قدوةً
علَماً .
روى عبد الرزاق في مصنَّفه عن عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ
عُمَرَ و قد سَأَلَهُ رَجُلٌ ، أَتُحَرِّمُ رَضْعَةٌ أَوْ رَضْعَتَانِ ؟
فَقَالَ : ( مَا نَعْلَمُ الأُخْتَ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلا حَرَامًا ) ،
فَقَالَ رَجُلٌ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ - يُرِيدُ ابْنَ الزُّبَيْرِ
- يَزْعُمُ أَنَّهُ لا تُحَرِّمُ رَضْعَةٌ ، وَ لا رَضْعَتَانِ . فَقَالَ
ابْنُ عُمَرَ : ( قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ قَضَائِكَ وَ قَضَاءِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ ) و رواه بنحوه الدارقطني ، و سعيد بن منصور كلٌّ منهما في
سننه .
الحالة الخامسة :
إذا نهى السلطان عن تبليغ حق ، أو إحياء سنَّةٍ أو إماتة بدعةٍ ، فإن على
الداعية الصادق أن يؤثر طاعة الرحمن على طاعة السلطان .
روى عبد الرزاق في مصنَّفه عن الشعبي ، عن عمه قيس بن عبدٍ قال : اختلفتُ إلى
عبد الله بن مسعود سنةً فما رأيته مصلياً صلاة الضحى و لا صائماً يوماً من
غير رمضان ، قال : فبينا نحن عنده ذات ليلة أُتيَ فقيل له : هذا رسول الوليد
، فقال عبد الله : ( أطفئوا المصباح ) ، فَدَخَلَ ، فقال له : إن الأمير يقول
لك : اترك هؤلاء الكلمات التي تقول ، قال : ( و ما هن ؟ ) قال : ( هذه
الكلمات ؟ ) قال : فلم يزل يرددهن ، قال : قولَك : كلٌّ مُحدَثَةٍ بدعةٌ ،
قال : ( إني لن أتركهن ) ، قال : فإنه يقول لك : فاخرج ، قال : ( فإني خارج )
، قال : فخرج إلى المدينة .
قلتُ : و غير بعيدٍ عن هذه الصورة ما ( قد ) يعمد إليه بعض ولاة المسلمين
اليوم من تغييرٍ لمناهج التعليم ؛ يراد منه التغاضي عن بعض أحكام الشريعة ،
أو كتمان بعضها ، أو تضييع بعض حدودها و أحكامها كتلك المتعلقة بباب الولاء و
البراء و الإعداد و الاستعداد و الخروج في سبيل الله للجهاد .
و الموفَّق من عرف الطريق فسلَكَها ، و أعرض عن الشُّبَهِ و من عَرَضَها .
الحالة السادسة :
إذا وقع الحاكم في منكر ، أو اقترف مظلمة بسبب فتوى حملت على غير وجهها من
عالم ثقة ، فالواجب على العالم أن يسعى حثيثاً لتبرئة ذمته ، و رفع الظلم
الواقع بسببه .
رواه أبو بكر الخلال في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر عن أَبي بَكْرٍ
الْمَروذِيُّ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ شَرِيكٍ ، قَالَ
: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ يُونُسَ ، يَقُولُ : صَلَّيْتُ عِنْدَ الْمَقَامِ
عِشَاءَ الآخِرَةِ ، وَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عِنْدَ الْمَقَامِ ،
فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ ، فَوَقَفَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَتْ : يَا سُفْيَانُ ،
بِأَيِّ شَيْءٍ تَسْتَحِلُّ أَنْ يُحْبَسَ ابْنِي بِسَبَبِكَ ؟ وَ كَانَ
أَرَى مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ : فَرَأَيْتُ
سُفْيَانَ قَدْ قَامَ إِلَى الْمَقَامِ ، فَإِذَا الْوَالِي بَيْنَ يَدَيْهِ
، فَقَالَ : لِمَ تَحْبِسُ رَجُلاً بِسَبَبِي ؟ قَالَ : فَقَالَ لَهُ
الأَمِيرُ : أَوْ قَالَ : الْوَالِي - شَكَّ الْمَرْوَزِيُّ - : هَذَا
اللَّيْلُ ، وَ بَابُ السِّجْنِ مُغْلَقٌ ، قَالَ سُفْيَانُ : ( لا أَبْرَحُ
مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ حَتَّى تُخْرِجَهُ ) ، قَالَ : ( فَأَرْسَلَ وَ جِيءَ
بِالْمَفَاتِيحِ ، وَ فَتَحَ بَابَ السِّجْنِ ، وَ جِيءَ بِابْنِهَا ، حَتَّى
دُفِعَ إِلَيْهَا ) .
قلتُ : خليق بعلمائنا الأثبات في هذا الزمان أن ينكروا على الحاكم استغلال
فتاوى الأئمة للزج بشباب الأمة في غياهب السجون ، و دياهب المعتقلات ، و أجدر
بهم أن يكفوا عن الإفتاء بما من شأنه أن يوقع الحاكم في المظالم ، و يولجهم
أبواب الجور و الحيف بتبرير من يقذف شباب الأمة بالخروج على الحكام و المروق
من الشريعة لمجرد حماسهم و غيرتهم على دينهم و ديارهم و أهليهم الذين يُعمل
فيهم الأعداء القتل و التشريد .
و لست إذ أرى مشروعة الإنكار العلني على الحكام في الحالات الست التي أوردتها
أقصر الحق على ما ذكرت ، و لكنه استقراء واقع المسلمين ، والنظر حال السلف
الصالحين ، و ضبط ذلك بضوابط الشرع المتين ، فإن وفقت في عرضه فالحمد لله
ربِّ العالمين ، و إلا فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم .
و ما توفيقي إلا بالله العلي العظيم ، عليه توكلت و إليه أنيب
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .